هل انسَحبت الإمارات من اليمن فِعلًا؟ ولماذا يُشكّك الحوثيون ويُؤكّدون أنّها عمليّة إعادة تموضُع للقوّات فقط؟
في عام 1994 نجَحت القوّات التابعة للزعيم الصومالي الراحل محمد فرح عيديد في إسقاط طائرة مروحيّة أمريكيّة من طِراز Black Hawk، وقامت هذه القوّات بالتمثيل بجُثث الجنود الأمريكيين (17 جنديًّا) الذين كانوا على متنها، وسحل جُثثهم في الشوارع، الأمر الذي دفع القِيادة المركزيّة الأمريكيّة إلى سحب جميع قوّاتها من الصومال، والهَرب مهزومةً.
الإدارة الأمريكيّة في حينها اتّهمت إيران بطريقةٍ “مُواربة” بالوقوف خلف هذه الحادثة، وحاولوا تحريض دول خليجيّة ضدها، على رأسها دولة الإمارات العربيّة المتحدة، فما كان من الشيخ زايد بن سلطان أن رفض رفضًا قاطعًا الدخول في أيّ مُواجهةٍ مع إيران، سياسيّة، أو عسكريّة، أو إعلاميّة، وقال للمبعوث الأمريكي الذي فاتحه بالأمر في حينها بأنّه لا يثِق بالأمريكان، ولهذا لن يدخُل في أيّ صراع مع إيران، لأنّ أمريكا قد تهرب من الخليج مثلما هربت من الصومال مرّتين، وتجِد الدول الخليجيّة نفسها وجهًا لوجه في مُواجهة إيران القويّة في حربٍ مُدمّرةٍ.
تذكّرت موقف الشيخ زايد الحَكيم هذا في ظِل حالة التوتّر المُتصاعدة حاليًّا في مِنطقة الخليج، والمُحاولات الأمريكيّة للزّج بالسعوديّة ودولة الإمارات في حرب ناقلات ربّما تتطوّر إلى حربٍ شاملةٍ، تكون الدول الخليجيّة أبرز ضحاياها، ووصول الحرب في اليمن إلى حالةٍ من الجُمود.
لا نعتقد أنّ الشيح زايد لو كان على قيد الحياة، سيدخل في تحالفٍ مع السعوديّة أو أمريكا لخوض هذه الحرب في اليمن المُستمرّة لما يقرُب من خمس سنوات وتحت عنوان رئيسي مُحاربة النّفوذ الإيراني “الفارسي”، فأدّت إلى توسّعه وليس حتّى تقلّصه، ولهذا ننظر إلى التقارير الإخباريّة التي تتحدّث عن انسِحاب تدريجي للقوّات الإماراتيّة من اليمن بأنّ هذا الانسحاب، إذا صحّ، ربّما يعكِس مُراجعة على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة لتقليص الخسائر، رغم أنّها خطوة جاءت مُتأخّرةً.
وما يعكِس بعض جوانب هذه المُراجعة الاستراتيجيّة أنّ دولة الإمارات لم تُوجّه أيّ اتّهامات مُباشرةً لإيران بالوقوف خلف تفجير سِت ناقلات (اثنتان منها إماراتيّة)، كما أنّها نفَت أن تكون السفينة التي أعلن الحرس الثوري احتجازها اليوم تابعة لها بأيّ شكلٍ من الأشكال.
لا نعرِف مدى دقّة هذه التّقارير حول انسحاب القوّات الإماراتيّة، فالسيّد محمد الحوثي، رئيس اللجنة الثوريّة العُليا، قال لنا في اتّصالٍ هاتفيٍّ أنّ القوّات الإماراتيّة ما زالت موجودةً على الأرض، وأنّ ما حدث هو إعادة تموضع، واستبدال وإعادة هيكلة للقوّات، بينما أكّدت مصادر غربيّة أنّ الانسحاب حدث فعلًا وبشكلٍ تدريجيٍّ، لأنّ الإمارات تُريد التّركيز على الجنوب حيث قامت بتدريب وتسليح أكثر من 90 ألف جندي، ولم تعُد تُريد أن تلعب أيّ دور في مُواجهة الحوثيين في الشمال.
الصواريخ الباليستيّة والطائرات المُسيّرة التّابعة لتحالف “أنصار الله” الحوثي التي استهدفت مُعظم، إن لم يكُن جميع، المطارات السعوديّة في الجنوب، وعطّلت حركة المِلاحة الجويّة فيها، لعِبَت دورًا كبيرًا في حُدوث هذا “التّململ” الإماراتي في حرب اليمن، وترجيح كفّة الجناح الذي يُعارض هذه الحرب داخِل القِيادة الإماراتيّة.
هذا الجناح المُعارض بات أعلى صوتًا وأكثر جُرأةً مثلما قال لنا مصدر اماراتي رفيع المستوى، خاصّةً في الإمارات الأخرى، مثل دبي والشارقة ورأس الخيمة، ونقل هذا المصدر عن مصادر مقرّبة من الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي ورئيس الوزراء، ونائب رئيس الدولة، قوله إنّ دبي لا تستطيع تحمّل سُقوط صاروخ حوثي واحد على مطارها، خاصّةً في هذا الوقت الذي يُعاني فيه اقتصادها من انكِماشٍ واضحٍ، وتقلّصت أرباح شركة طيران الإمارات 60 بالمِئة بالمُقارنة مع العام الماضي، ويُمكن أن تتبخّر الأرباح كُلِّيًّا في العام المُقبل، وتراجُع سوق العقارات بأكثر من 50 بالمِئة على الأقل.
ونقل هذا المصدر عن الشيخ بن راشد الذي عارض بشدّةٍ أيّ مُواجهة عسكرية أو تصعيد مع إيران بشأن الجزر الثلاث (أبو موسى، طنب الصغرى، وطنب الكبرى) لأنّه ليس من الحِكمة الدخول في هذه المُواجهة من أجل استعادة 13 كيلومترًا من الجُزر الصخريّة والتّضحية بكُل هذه الإنجازات الاقتصاديّة والعمرانيّة الضّخمة، كما نقل عن مصادر قريبة منه قولها مُؤخّرًا “إنّ أمريكا ربّما تنتصر على إيران في أيّ مُواجهةٍ مُحتملةٍ ولكنّ أبو ظبي ودبي ستُدمّر كُلِّيًّا في المُقابل”.
الأمير خالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع السعودي أكّد أثناء لقائه مارتن غريفيث، المبعوث الدولي لليمن قبل يومين أنّ الأولويّة باتت للحل السّلمي في الأزَمَة اليمنيّة، ولكنّه لم يقُل ما هي شُروط هذا الحل، وكيفيّة الوصول إليه، والخُروج من هذا المُستنقع اليمني، وكان لافتًا أنّ اللّقاءات بين القِيادتين السعوديّة والإماراتيّة نادرة في الأسابيع الأخيرة.
هذا اعترافٌ صريحٌ بأنّ الحل العسكري، والغارات الجويّة المُكثّفة والقَصف السجّادي، كلها فشِلت في الحسم، مُضافًا إلى ذلك أنّها بدأت ترتد سلبًا على المملكة وحُلفائها، وتهُز صورتها في العالم كدولة ترتكب جرائم حرب، ولعلّ اعتماد الكونغرس مشروع قرار بمنع بيع صفقات أسلحة أمريكيّة للرياض وأبو ظبي بسبب حرب اليمن، واغتيال الصحافي جمال خاشقجي، أحد الأدلّة في هذا الصّدد.
“الإنجاز” الأبرز للتحالف السعودي الإماراتي حتى الآن هو تكريس الانفصال بين الشمال والجنوب في اليمن، وتفتيت الأخير، أيّ الجنوب، وإغراقه في صِراعات قبليّة ومناطقيّة، وربّما حروب أهليّة بين الميليشيات المُتصارعة، تمتد لسنوات وربّما لعُقود.
ما زال كثيرون داخل اليمن وخارجه يعتقدون أنّ الانسحاب الإماراتي مجرّد “تكتيك” إعلامي، ومحاولة لتجنّب ضربة صاروخيّة حوثيّة على غِرار ما يحدُث في جنوب السعوديّة، فالإمارات وفقًا لهذه المصادر أرسلت قوّات إلى ميناء المخا قبل يومين، وما زالت تُسيطر على كُل مطارات وموانئ وجزر اليمن (سوقطرة، ميون، أرخبيل، حنيش)، وأنّ الجواب الذي وجده وفدهم الذي ذهب إلى طِهران لتجنّب ضربات صاروخيّة “اذهبوا إلى الحوثيين وتفاوضوا معهم نحنُ ليس لنا أيّ دور في الأزَمَة”، أيّ تِكرار الخِطاب الإيرانيّ الرسميّ وغير المُقنع.
الحوثيون يقولون إنّهم يربطون أيّ ضربة صاروخيّة لمُدن إماراتيّة باستمرار الهُدوء الحالي على الساحل الشمالي، مُضافًا إلى ذلك أنّهم لا يُريدون فتح الجبهة الإماراتيّة ويفضلون التّركيز على الجبهة السعوديّة في الوقت الراهن، والمَسألة مسألة وقت ومُتابعة التطوّرات عن كثَب حتى يأتي الوقت المُناسب، واحتمالات التّغيير واردة.
المصدر الحوثي نفسه قال لنا بالحرف الواحد، إنّ السعوديّة ربّما تستطيع تحمّل عدّة ضربات لمطاراتها، ولكنّ الإمارات لا تستطيع تحمّل ضربة واحدة، وأكثر من طرف قام بإيصال هذه الرسالة للإمارات.
لا نستبعد أن تسود حكمة الشيخ زايد في النّهاية، ويتحوّل انسحاب الإمارات إلى استراتيجيّة وليس تكتيكًا، حفاظًا على اللُّحمة بين إماراتها، وتقليصًا للخسائر، أمّا ماذا سيحدُث للتحالف مع السعوديّة، فهذه قصّةٌ أُخرى.
دولتان لم يهزمهما أيّ تدخّل عسكريّ خارجيّ، أفغانستان واليمن، وإذا كانت أمريكا بجلالة قدرها رفعت الراية البيضاء في أفغانستان بعد 18 عامًا من الغزو، وبدأت التّفاوض مع حركة طالبان مُباشرةً، ووجهًا لوجه، فإنّه من المُفيد للتحالف العربي السّير على النّهج نفسه الآن وليس بعد عشرين عامًا، ويتركوا اليمن بالتّالي لأهله، وهُم أقدر على حلّ مشاكلهم بأنفسهم.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية