هل بات انهيار “جيش الشعب” الإسرائيلي وشيكاً؟
يلزم قانون “التجنيد الإجباري” كل إسرائيلي فوق سن الثامنة عشرة، ويتمتع باللياقة البدنية والعقلية، الخدمة في “جيش” الاحتلال. وتبلغ فترة التجنيد الفعلي 24 شهراً للنساء و36 شهراً للرجال. ولأنَّ “إسرائيل” “دولة صغيرة” محاطة بالعديد من “الأعداء”، فهي بحاجة إلى جميع مستوطنيها في “الجيش”، وليس هناك مجال للاختيار الشخصي بين الرغبة في الخدمة من عدمها.
اليوم، ثمة جدل كبير واسع في المجتمع الإسرائيلي حول جدوى استمرار فكرة “جيش الشعب” الآخذة بالتأكّل، وتُطرح أسئلة كثيرة من نوع: ألم يحن الوقت لإلغاء التجنيد الإجباري في “الجيش الإسرائيلي”، وتحويله كبقية جيوش العالم تقريباً إلى “جيش محترف لشعب يختار الخدمة ولا يلزم بها”؟
شكّلت العديد من اللجان لبحث هذا الأمر، وصدر العديد من الدراسات والتوصيات، وخصوصاً مع تنامي ظاهرة ارتفاع نسبة المتهرّبين من التجنيد في “جيش” الاحتلال بصورة ملحوظة، إذ تظهر المعطيات أنّ ما يقارب نصف النساء وثلث الرجال في “إسرائيل” لا يلتحقون بـ”الجيش”.
يستند الذين يطالبون بإلغاء التجنيد الإجباري وتحويل “الجيش الإسرائيلي” إلى جيش محترف إلى أنّ معظم الدول المتقدمة قبلت في السنوات الأربعين الماضية هذا الاختيار وألغت التجنيد الإجباري. ليس هذا فحسب، بل إنهم جميعاً فعلوا ذلك مستندين إلى تحليلات اقتصادية تظهر أنّ جيشاً محترفاً صغيراً ماهراً ومجهزاً تجهيزاً جيداً هو أكثر كفاءةً وفعاليةً من حيث التكلفة من التجنيد الإجباري العام.
إنَّ الجيش المحترف الذي يلتحق به الجنود باختيارهم وليس بالإكراه، هو جيش يستخدم إمكانات رأس المال البشري بطريقة أفضل بكثير، بل إنَّ التحليلات الاقتصادية العالمية أكّدت أنَّ الجيش المحترف يمكنه أن ينتج المخرجات العسكرية نفسها بقوى بشرية أقل بنسبة 30%.
لكنّ معارضي هذا التوجه يحاججون بأنه ليس دقيقاً بالنسبة إلى “الجيش الإسرائيلي”، إذ يواصل الخبراء الاقتصاديون في “إسرائيل”، على عكس الاقتصاديين في الولايات المتحدة وأوروبا، دعم فرض التجنيد الإجباري، باعتباره الأداة الأكثر فعاليةً وكفاءةً لتحقيق الأهداف الاقتصادية والعسكرية لـ”إسرائيل”.
في الواقع، إنَّ السبب الرئيس لهذه الاختلافات يتلخّص في شدة التهديد، فمعظم الدول الحرة تواجه تهديدات عسكرية محدودة يمكن أن يتعامل معها جيش محترف صغير وفعّال بشكل جيد. ولا تكاد توجد دولة حرة تواجه خطر حرب شاملة، ومن جبهات مختلفة، مثل “إسرائيل”!
وبما أنَّ “إسرائيل” لا تستطيع تحمّل خسارة أي حرب، ومن أجل ضمان قدرتها على الانتصار دائماً، يتعيَّن عليها استبدال التجنيد الإجباري بجيش محترف ذي إمكانات هائلة، فهل هذا ممكن؟ مثل هذا الجيش، الذي يتم تمويله بالكامل من خلال رواتب ثابتة مجزية، هو أكثر تكلفةً بكثير من النموذج الذي تتبناه “إسرائيل” اليوم: جيش إلزامي ودائم صغير نسبياً، مسنود بجيش احتياطي آخر كبير لا يتم استدعاؤه للخدمة إلا عند الحاجة.
هذا النموذج هو الأقل تكلفة لـ”دولة” استعمارية يجب أن تظلّ جاهزةً في جميع الأوقات لحرب شاملة. ومن الناحية الاجتماعية، يعتبر نموذج “جيش الشعب” الأفضل، لأن الروح التي يبثها تعزز الحالة الوطنية “الجامعة” والتماثل بين الدولة والشعب.
ثمة سبب مهم آخر يجعل الخبراء الاقتصاديين والسياسيين يفضلون نموذج “جيش الشعب الإسرائيلي” الحالي، هو جودة رأس المال البشري، إذ سيؤدي الانتقال من جيش إلزامي إلى جيش اختياري إلى إلحاق ضرر كبير بجودة الأشخاص الذين يختارون الجيش مهنةً مدى الحياة؛ فلا يمكن، بهذه الطريقة، الحفاظ على “الجيش الإسرائيلي” باعتباره جيشاً عالي الجودة ومتقدماً تقنياً.
أما على المستوى الكمي، فيؤكّد “الجيش” الإسرائيلي منذ سنوات حقيقة أنّ “الجيش المحترف” سيظل بحاجة إلى معدّلات تجنيد عالية، مع أخذ الفجوة التي ستنشأ في نظام “جيش” الاحتياط بعين الاعتبار، وهو الرصيد الفعلي لحالة الحرب الشاملة.
خلاصة القول، من دون نموذج الجيش الشّعبي لا يمكن ضمان أمن “إسرائيل”، لكن مع استمرار تدهور معدلات التجنيد وتراجعها، ليس من الواضح على الإطلاق أنَّ نموذج “الجيش الشعبي”، حتى لو كان هناك من يعتقد أنّه النموذج الأفضل في الحالة الإسرائيلية، يمكن أن يستمرّ، وما الأزمة المتواصلة منذ نشوء هذا الكيان حول فرض “قانون التجنيد” على جميع الإسرائيليين سوى مثال بسيط على ذلك، مع ما يرافقها من تزايد سنوي في نسبة التهرّب من التجنيد الإجباري بذرائع وحيل مختلفة.
يتخذ التهرّب من التجنيد الإجباري في “إسرائيل” أشكالاً عدة، منها ما هو “شرعي” وفق “القانون” الإسرائيلي، إذ يتجنب البعض التجنيد الإجباري بطرق قانونية، كالفتيات اللائي يخترن إعلان “أنهن متدينات”، فيحصلن على إعفاء لأسباب تتعلق بالاعتراف الديني، وكذلك “الفتيان” الذين يرغبون في الزواج قبل الخدمة العسكرية، فيحصلون على إعفاء منها، علماً بأن القانون الإسرائيلي كذلك يعفي الإسرائيليين “الحريديم” المتدينين من التجنيد.
في المقابل، فإن الشخص “المتهرب من التجنيد” يتصرف بطرق غير قانونية بهدف التملّص من الخدمة في “جيش” الاحتلال، وهناك العديد من الطرق التي يتحايل فيها الإسرائيليون على القانون بهدف التملّص من الخدمة، مثل الفتيات غير المتدينات اللائي يتظاهرن بخلاف ذلك للحصول على الإعفاء.
نصف الفتيات اللائي وصلن إلى سنّ التجنيد الإجباري هذا العام حصلن على تسريح لأسباب دينية، من خلال الاستعانة “بوثيقة إعلان” بسيطة يتعهّدن فيها المحافظة على حرمة السبت واتباع نمط حياة “كوشير” حلال، حتى لو كنّ “علمانيات” تماماً، وهو ما صرّحت به 35% من الفتيات اللائي يشكّلن ما يقارب نسبة 80% من إجمالي المعفيين من التجنيد الإجباري.
يضاف إلى ذلك تهرّب الشبان الأرثوذكس “الحريديم” المتدينين من الخدمة العسكرية، وغيرهم الكثير ممن لا يرغبون في التجنيد للأسباب التي سنأتي على ذكرها، وبالتالي فإنهم يقدّمون شهادات طبية مزورة بهدف الحصول على إعفاء بذرائع صحية.
بصورة عامة، إنَّ السبب الرئيس لتراجع التجنيد في “الجيش” الإسرائيلي هو الدين، يليه الإعفاء لأسباب صحية ونفسية، والذي تصل نسبته إلى 6% من إجمالي المعفيين من التجنيد. ومع تزايد تعقيد الوضع الأمني في فلسطين وتصاعد المقاومة، يضعف المحفّز ويزداد معه دافع الشباب إلى العزوف عن الخدمة العسكرية.
لنأخذ على سبيل المثال معطيات “جيش” الاحتلال عام 2005، إذ تم تجنيد 77% فقط من الرجال اليهود في الجيش، أي أنّ 23% منهم لم يتجندوا على الإطلاق. ومن بين هؤلاء، تسرّب 18% أثناء الخدمة، وكانت نسبة الرجال الذين أتموا الخدمة العسكرية الكاملة 58% فقط.
أما فيما يخص النساء، فقد كانت نسبة اليهوديات اللائي تجندن في “الجيش” الإسرائيلي في ذلك العام 59% فقط. واللافت اليوم، وبعد مرور 17 عاماً، أن 69% فقط من الرجال اليهود يلتحقون بـ”جيش” الاحتلال الإسرائيلي.
إذاً، ما تفسير التراجع في معدلات التجنيد بين اليهود؟ يمكن الافتراض أن السبب الأول يكمن في النمو السريع للسكان الأرثوذكس المتشددين الذين لا يلتحقون بـ”الجيش” الإسرائيلي. ومن المؤكد أن الديموغرافية الأرثوذكسية المتطرفة تعمل على تأكل هذه الأرقام باستمرار، أي أن نصف الإسرائيليين في سن التجنيد لا يخدمون في “الجيش” الإسرائيلي.
وعلى الرغم من كل التسويات السياسية مع الأحزاب الأرثوذكسية المتدينة وترتيبات التجنيد التي أعدتها وزارة حرب الاحتلال، فإنها لم تنجح إلى اليوم في زيادة تجنيد الأرثوذكس المتطرفين بالاتفاق، وبوسائل “ناعمة”، وهو ما يعني مواصلة السير نحو واقع محتوم سيتوقف فيه “الجيش الشعبي” عن الوجود، وسيعاني “الجيش” الإسرائيلي نقصاً حاداً في القوى العاملة، ما يجعل من الصعب عليه إدارة تشكيلاته العسكرية المختلفة.
عام 2020، كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن ما يقارب ثلث الشبان المقررين للخدمة العسكرية (ذلك العام) لا يتوقع تجنيدهم، ويخشى “الجيش” الإسرائيلي أن أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو الارتفاع المطرد في منح إعفاءات لاعتبارات “الصحة العقلية”.
وقد كتب اللواء موتي إلموز، رئيس قسم الأفراد في “جيش” الاحتلال الإسرائيلي، رسالةً إلى جميع مسؤولي الصحة النفسية في مكاتب التجنيد، أشار فيها إلى اتجاه واضح ومقلق في “جيش” الاحتلال الإسرائيلي يتم بموجبه إعفاء المزيد من الشباب، وخصوصاً الفتيان، من الخدمة العسكرية.
وتكشف مقابلة جرت مع العميد أمير روغوفسكي، رئيس قسم تخطيط القوى العاملة في “جيش” الاحتلال الإسرائيلي، شدة القلق الذي يساور قيادة الجيش من تنامي هذه الظاهرة، إذ صرّح: “إذا واصلنا على هذا النحو، فلن يكون لدى الجيش عدد كافٍ من الناس لأداء مهامه”.
في الواقع، يشير تتبع هذا الأمر إلى جملة من الأسباب التي تقف خلف هذه الزيادة “المقلقة” في التهرّب من التجنيد بين الفتيان، لكن المسؤولين الإسرائيليين يقدّرون أن أصل المشكلة يكمن في الزيادة الملحوظة في نطاق الإعفاءات النفسية.
وعلى الرغم من أن الإعفاء الطبي لأسباب صحية ظلّ ثابتاً خلال العقد الماضي، إذ بلغ نحو 2.5%، فإنّ الإعفاء الطبي لأسباب نفسية آخذ في الازدياد، فمن 4.5% “فقط” قبل 5 سنوات، قفزت النسبة العام الماضي إلى 6.5%. ومن المتوقع أن تصل هذا العام إلى 8.3%. وقد أدى كذلك العديد من حالات الانتحار في “جيش” الاحتلال إلى أن يقوم العديد من الضباط العسكريين بالتساهل في معايير “الإعفاء لأسباب نفسية”.
يدرك “جيش” الاحتلال الإسرائيلي نزعة التهرّب بذريعة “الصحة العقلية”، ويتخذ “خطوات متسارعة” لمكافحتها. ومن وجهة نظر “الجيش”، هذه ليست نسبة هامشية، فآلاف الجنود لا يلتحقون بـ”الجيش” كل عام، ومعظمهم من ذوي الكفاءة العالية.
ويعتقد كبار المسؤولين في “جيش” الاحتلال أن هذه الظاهرة ليست وليدة “زيادة مفاجئة” في “اعتلال الصحة العقلية” لدى الشباب، ولكن بشكل رئيسي بسبب انخفاض الدافع للخدمة. يدرك المسؤلون الإسرائيلييون كذلك أن تأكل الدافع للخدمة في الجيش ليس مشكلة الجيش فقط، ولكنها مشكلة إسرائيلية بالكامل، وبالتالي يتجند وزير حرب الاحتلال ورئيس الوزراء ومراكز الاختصاص في العمل على إيجاد الحلول المناسبة لهذه المعضلة.
في الواقع، هناك أسباب كثيرة ومتنوعة للتهرب من الخدمة في “جيش” الاحتلال، لعل أهمها هو الافتقار إلى الدافعية والحافز لخدمة “الوطن” عبر الانخراط فيه، كما تشير العديد من التقارير الصادرة عن مراكز الاهتمام والبحث في “جيش” الاحتلال، ومنها أيضاً الرغبة في عدم المخاطرة بالخدمة العسكرية التي قد يتعرض خلالها الجندي للأذى بصوره المختلفة، إذ يشكّل الخوف من الموت دافعاً أساسياً أمام الإسرائيليين للتهرب من الانخراط في صفوف “الجيش”.
وقد تنامى هذا الخوف مع تصاعد خسائر “جيش” الاحتلال البشرية بفعل المقاومة، وتراجع هيبته، والخوف من مواجهة المقاومة، والقناعة بعبثية الصدام مع الفلسطينيين. وبدأت هذه الظاهرة بصورة متصاعدة عقب حرب أكتوبر 1973، بسبب الهزيمة التي مني بها “جيش” الاحتلال الذي واجه تحدياً يتمثل بتدني مكانته في نظر الإسرائيليين.
وشكّلت المواجهات العسكرية المتلاحقة مع المقاومة الفلسطينية إثباتات مخيبة للآمال على الانتكاسات المهينة للجيش، وأكدت زيادة التأثير السلبي لإخفاقاته في صورته، وأسهمت كذلك في تراجع قناعة الإسرائيليين بأن لديهم الجيش الأقوى في العالم. وعلى العكس، فإنهم اليوم أقل تفاؤلاً وأكثر خوفاً.
وتصاعدت الأزمة مع ما كشفه آخر استطلاع لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي في كانون الثاني/يناير 2021 عن انخفاض ثقة الجمهور الإسرائيلي بـ”الجيش” من 90% إلى 81%، وهي المرة الأولى التي تتراجع فيها نسبة الثقة إلى هذا الحد، فمع كل تصاعد للمقاومة يزداد عدد رافضي الانخراط في عمليات “جيش” الاحتلال، لأنها أسهمت في زيادة الخوف والرعب لديهم.
ومع أنّ للتهرّب من الجيش آثاره السلبية في حياة المواطنين في “إسرائيل”، إذ يعتبر التهرّب من التجنيد الإجباري أمراً سلبياً في نظر معظم الإسرائيليين، ويعاقب الشخص المتهرّب بالسجن، وينظر إليه على أنه غير مسؤول، ولا يساهم في خدمة الدولة، ويعيش على حساب الآخرين، ويشكّل “التهرّب” وصمة عار في السيرة الذاتية للشخص، وربما تحرمه من القبول في العديد من الوظائف والدراسات العليا وما إلى ذلك، إلا أن هذا كله لم ينجح في كبح جماح الظاهرة الآخذة في الاتساع والتنامي، وربما تستمر روح “جيش الشعب” في التأكّل، فتضطر “إسرائيل” للاستعاضة عنه بجيش محترف!
الميادين نت