هل ستتوقف المنافسة الأمريكية الروسية في الشرق الأوسط ؟ (فيودور لوكيانوف)

فيودور لوكيانوف

حقق الرئيس الأمريكي باراك أوباما فوزاً مقنعاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، وإن دل فقدانه لعشرة ملايين صوت من أصوات الناخبين بالمقارنة مع نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2008 على أن خيبة الأمل لدى شريحة واسعة من سكان البلاد خلال السنوات الأربع المنصرمة كانت كبيرة. غير أن الجمهوريين على لسان مرشحهم ميت رومني لم يقدموا بديلاً واضحاً ومفهوماً لسياسة أوباما.
أما في الخارج فلم يتغير الموقف الطيب من حيث المبدأ لأكثرية البلدان تجاه باراك أوباما بغض النظر عن منجزاته "المتواضعة"، حيث أعرب معظم المشاركين في عمليات استطلاع الآراء فيها عن تفضيلهم المرشح الديمقراطي.
فأوباما في نظر هؤلاء يبدو رجل سياسة يتفهم أن هناك تغيرات ملحوظة حصلت في العالم المعاصر وأن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تتحكم فيه كما تعودت في فترات سابقة. إلا أن هذا الاستنتاج لا يعني على الإطلاق، في حقيقة الأمر، أن الرجل يعرف ما الذي ينبغي له أن يعمل في هذا الظرف. بل بالعكس، يميل النهج الخارجي الذي اعتمده أوباما، أكثر فأكثر إلى التعامل العفوي مع التحولات الجارية في العالم باستمرار بدلا من محاولات وضع إستراتيجية ما، الأمر الذي يتعرض الرئيس الأمريكي بسببه لانتقادات كثيرة، رغم أنه من المشكوك فيه أن يكون هناك رئيس أمريكي آخر قادر على انتهاج سياسة مدروسة أكثر ومرسومة بشكل استباقي.            
ولا عجب في أن المجادلات الحادة حول بعض الموضوعات السايسية (المعدودة، والحق يقال) جرت خلال الحملة الانتخابية الأخيرة في الولايات المتحدة، في الغالب، في أجواء تخللتها انفعالات وملاسنات كلامية دون أن تنكشف  خلافات مبدئية في المواقف بين المرشحين.
أما روسيا فتعالت فيها خلال الحملة المذكورة أصوات ادعت أن رومني باعتباره رجلا صريحا يقول بدون مواربة وعلى الملأ إن روسيا تعتبر العدو الجيوسياسي رقم 1 بالنسبة لأمريكا، قد يكون رئيسا أفضل وأبسط وأكثر وضوحا لموسكو بالمقارنة مع أوباما المنافق البارع في خلق تصور وهمي بشأن إقامة علاقات ثقة متبادلة دون أن تكون هكذا في حقيقة الأمر. وحتى تشكل انطباع بأن هذه الأصوات تعكس موقفا رسميا للكرملين تجاه "الحصيلة المنشودة" للانتخابات الأمريكية لدرجة أن وسائل الإعلام الغربية تناقلت عبر مراسليها في موسكو رأيا مفاده أن المرشح الجمهوري سيكون أكثر نفعا بالنسبة للروس لأنه سيمثل "بعبعا مثاليا" يمكن استخدامه عند ظهور حاجة إليه محليا لهذا الغرض أو ذاك!           
غير أن التهانئ السريعة التي قدمها لأوباما كل من الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين وسلفه في فترة السنوات 2008 – 2012 ورئيس وزرائه الآن دميتري ميدفيديف فور صدور النتائج الأولية للانتخابات الأمريكية، تدل على شيء آخر. شأنهما شأن مسؤولين روس آخرين أحسوا بانفراجة بينة إثر هزيمة رومني الانتخابية.   
ويعود سبب ذلك ليس إلى مشاعر العطف تجاه أوباما الذي يستحق ذلك، فعلا، نظرا لخصاله الإنسانية المعروفة، بل وإلى سعي الرئيس بوتين الملحاح إلى تطبيق فكرته المحببة المتمثلة في ضرورة الحفاظ على الاستقرار في العلاقات الدولية. وكان رومني يثير مخاوف من أنه في حال فوزه بمنصب الرئيس الأمريكي سيشرع في إحياء المواقف الهجومية المتغطرسة التي تبنتها إدارة بوش الأبن الأمريكية السابقة متسببة في الاضطرابات والقلاقل في العالم كله التي تبقى محسوسة حتى الآن، وفي إظهار انعدام الكفاءة العالية من جديد في تسيير الشؤون الداخلية والدولية.
وكان بوتين على امتداد هذه السنة "الانتخابية" في روسيا والولايات المتحدة يلفت نظر الجميع دوما إلى وجود علاقة مترابطة بين هذه الأمور (الداخلية والخارجية)، مشيرا إلى أن الفوضى والفلتان والبلبلة في الخارج لا بد أن تنتقل إلى الداخل بكل ما لها من عواقب وتداعيات غير قابلة للتكهن بها، خاصة تحت تأثير التصرفات والسلوكيات غير المدروسة.             
أما أوباما فهو، في نظر القيادة الروسية، يبدو شخصية سياسة رزينة يميزها توخي الحذر والحيطة، بعيدا عن أن يكون "رجل حرب" يحبذ افتعال أزمات بشكل مقصود للدخول في عراك أولا ليرى ما سيترتب عليه لاحقا. وتكفي هذه الاعتبارات السياسية لتفضيل الرئيس الأمريكي الحالي على خصمه مهما كانت تصرفات إدارته مزعجة للجانب الروسي  حول "قانون ماغنيتسكي" أو النزاع السوري أو حالات التذكير المتكررة من البيت الأبيض الأمريكي بشأن عدم شرعية "أعمال العنف والقمع" التي تمارسها السلطات الروسية، في نظر أوباما وأعوانه، تجاه المعارضة في البلاد.
غير أن هذا التفضيل لا يعني على الإطلاق أن العلاقات الروسية الأمريكية ستشهد انفتاح آفاق جديدة في لمح البصر مع بداية ولاية أوباما الرئاسية الثانية، لأن تلك العلاقات لم تخرج حتى الآن من الدائرة المعتادة منذ زمن انتهاء "الحرب الباردة".         
وتكمن المشكلة الرئيسية بين البلدين في غياب المضمون العصري في أجندة علاقاتهما الثنائية التي ما زالت محكومة – مهما قيل ويقال من جانب المشاركين في تسييرها – بالملفات والطروحات "المألوفة" البالية التي تم إعدادها خلال "الحرب الباردة". ولن يأتي يوم لتعبئة جدول أعمالهما المشترك بموضوعات حيوية جديدة إلا عندما ستتطرق المفاوضات بين موسكو وواشنطن إلى طائفة أخرى من القضايا، وفي مقدمتها الوضع في آسيا، وآفاق الاستثمار المربح الجماعي في منطقة القطب الشمالي، وإصلاح النظام الحالي لعدم الانتشار النووي المهدد بالانهيار، ناهيك عن التعاون الاقتصادي والتجاري الحقيقي ألخ. وكل هذه المسائل بحاجة ماسة إلى النقاش الذي لا أحد يرغب في فتحه وإجرائه حتى الآن!    
ويمكن في السياق نفسه أن تصبح منطقة الشرق الأوسط واحدا من هذه الموضوعات المستقبلية الواعدة والجديرة  بالبحث الجدي بين الطرفين، إذا تيسر لروسيا وأمريكا النظر إليها نظرة جديدة ليس من زاوية المواجهة وصراع النفوذ الذي يفقد معناه كثيرا في الظرف الراهن، بل من منطلق وجود ما يجمع بين موسكو وواشنطن في الشرق الأوسط رغم كل أختلاف نهوجهما ومواقفهما من كيفة معالجة مشاكل هذه المنطقة. ويكمن هذا القاسم المشترك بالدرجة الأولى في تضعضع قدرة الدولتين الكبريين – روسيا والولايات المتحدة – وبشكل متواصل على ممارسة التأثير على مجريات الأحداث هناك. 
بالطبع، لكل طرف تاريخه مع المنطقة. فقد أسفر تفكك الاتحاد السوفيتي عن هبوط مكانة موسكو وهيبتها في هذا الجزء من العالم، فيما أدى غزو أمريكا للعراق ومن ثم تطورات "الربيع العربي" في شمال إفريقيا والشرق الأوسط  إلى إزالة كل شركاء روسيا التقليديين تقريبا. ورغم أن أحداث سوريا أعادت إلى ذاكرة العالم أهمية "عامل روسيا"، إلا أنه من الواضح أن موسكو لن تستطيع استرجاع نفس  المستوى من النفوذ الذي كانت تحظى به منذ عقدين تقريبا.
ولكن من المفارقات العجيبة أن الولايات المتحدة وصلت إلى النتيجة نفسها رغم أنها كانت قد قطعت طريقا مختلفا. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي سارعت واشنطن إلى فرض هيمنتها العالمية والإقليمية حاصدة ما تركه "العدو السوفيتي المهزوم" من غنائم مجابهة. وكلفت تلك المسيرة الولايات المتحدة كثيرا من الجهد والمال والأرواح البشرية، قبل أن تجد نفسها في حالة غريبة عندما بدأت واشنطن تبذل مساع حثيثة للتكيف فقط مع التطورات غير القابلة للتنبؤ بمسارها اللاحق أكثر فأكثر، بدلا من صياغة إستراتيجية مدروسة للتحكم فيها. وإن كان من الممكن أن تنجح هذه المجهودات على مدى قصير إلا أنها لن تفلح في المستقبل البعيد.
ذلك أن القوى الراديكالية المتطرفة التي ازداد نشاطها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل ملحوظ، تقف مواقف  صلبة معادية تجاه الولايات المتحدة، حتى عندما تتلقى منها  مساعدات مختلفة "بسرور" لاعتبارات تكتيكية عابرة، ودون أن تكن أي مشاعر ودية نحو روسيا على حد سواء. والمنافسة الروسية الأمريكية في المنطقة، التي تغذيها حسابات الهيبة العالمية، ليست لها أي علاقة جدية مباشرة بقصاياها الإقليمية المحلية. وإذا ما تركنا جانبا تلك الاعتبارات لنرى بسهولة أن المخاوف والهواجس المشتركة التي تجمع هناك بين روسيا وأمريكا هي أكثر بكثير من التناقضات والخلافات التي تفصل وتفرق بينهما. خاصة والولايات المتحدة نصبت أمامها هدف تخفيض الاعتماد بأسرع ما يمكن على موارد الطاقة المستوردة من الشرق الأوسط وفي مقدمتها النفط. وإذا تم بلوغ هذا الهدف المنشود، فإن مفاهيم الجيوسياسة وتطبيقاتها في هذا الجزء من العالم سوف تتبدل بشكل دراماتيكي. علما بأن روسيا بدورها لا تعتمد على الهيدروكربونات المستوردة من الشرق الأوسط.
بطبيعة الحال، ما يتطرق كاتب هذه السطور إليه، لا يخرج عن نطاق الفرضيات البحتة. ذلك أن التفكير الجديد تجاه الشرق الأوسط لا يمكن تلمسه لدى واشنطن أو موسكو حتى الآن على حد سواء. وقد يحتاج الأمر، على ما يبدو، إلى هزات واضطرابات إضافية جديدة حتى يتغير منظور رؤيتهما لأوضاع هذه المنطقة وتوجهاتها.

مجلة "روسيا في السياسة العالمية"

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى