هل نملك غير الثقافة ردّا على العنف؟
العنف يرتبط بالمخلوقات. أنظر أشواك الزهور أو منظومة الحماية الفائقة لنبتة الصبار. أترك نخلة من دون صاعود ينظفها من أشواكها أو من دون تكريب وسترى شجرة مختلفة أشبه بقلعة دفاع. الأكباش تقضي ساعاتها الأخيرة قبل الذبح بالتناطح فيما بينها.
العنف في الطبيعة مسبب. الأشجار “تلجأ” إلى العنف حماية لثمارها. الحيوانات تتصارع للسيطرة والحصول على الغذاء أو حماية لصغارها. لا تمدّ يدك إلى الزهرة لتقطفها فلا يخزك شوكها. الأشجار تصعد عاليا قبل أن تبدأ بالإثمار لتمارس نوعا من العنف بتصعيب مهمة الطامع بثمارها وقد يسقط من جذوعها مسببا الأذى لنفسه.
العنف في الطبيعة أيضا منظّم. الحيوانات تفترس بأسنان حادة وتقطع بمخالب وترفس بحوافر صلبة وتنطح بقرون أشبه بالعظام المسنّنة. لكنها في النهاية تحتاج إلى الكثير من الجهد العضلي والتركيز والمطاردة والهرب لكي تمارس هذا العنف.
أدوات الطبيعة التي تمارس العنف محدودة نسبيا. في أستراليا مثلا تقتل أسماك القرش ثلاثة أو أربعة أفراد بالسنة لأن لا شيء لديها غير فكوكها وأسنانها، في حين يقتل الإنسان ما يزيد عن 50 ألف سمكة قرش. العنف في الطبيعة هو جزء من آليات التوازن والبقاء.
العنف عند الإنسان شيء آخر. الإنسان نادرا ما يستخدم قوته العضلية في القتل، بل يلجأ إلى آلة وأدوات. ثمة اعتقاد متزايد الآن لدى علماء الأنثروبولوجيا أن البشر المعاصرين هم الفائزون في صراعات مع أنواع أخرى من الإنسان، مثل إنسان نياندرتال، وأنهم ليسوا النسخة المتطورة عنهم. العصيّ والرماح والفؤوس والحجارة كانت أدوات لممارسة العنف في الصيد وفي الحرب.
تطوّرت الأدوات فتطوّر العنف. القتل بالسيف يحتاج جهدا عضليا وتدريبا، وأيضا اقترابا خطرا من الضحية. أسلحة الرمي الميكانيكية مثل الأقواس والسهام والمنجنيق، أو النارية التي تطورت مع ظهور البارود سهلت المهمة عمليا ونفسيا. القاتل يطلق النار من بعيد ولا يحتاج أن يرى عين الضحية وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. القنابل صارت سلاحا سرعان ما طوره الإنسان بإلقائه على خصمه غير المنظور باستخدام مدفعية أو طائرة. وصلنا إلى عصر سلاح الدمار التام مع دخول العصر النووي.
مشكلة العنف الإنساني أنه بدأ واستمر غرائزيا، لكنه ظل يبحث عن الإطار الأيديولوجي لتبرير حدوثه. سنجد في كتب التاريخ كل أنواع المبررات لممارسة العنف، خيالية أو مقدسة أو فكرية. العنف جزء أصيل من ممارسات الأديان. دعوة السيد المسيح (ع) إلى إدارة الخدّ الأيسر لمن ضربك على خدك الأيمن لم تمنع حدوث الحروب الصليبية التي تعدّ أطول حملة عسكرية في تاريخ البشرية.
بوجود الأدوات الحديثة، صار العنف نمطا حياتيا. الحركات المسلحة المعاصرة، مثلها مثل الجيوش، هي وظيفة بدوام كامل. التقنيات الإلكترونية وسّعت دائرة العنف بشكل غير مسبوق، وصار العنف مشهدا دائما على الفضائيات ورسالة متواصلة على مواقع الإنترنت والشبكات الاجتماعية. العنف، خلال السنوات العشرين الأخيرة، فقد صفته المنظمة واكتسب صفة الإرهاب. القاعدة والنصرة وداعش وحزب الله وميليشيات إيران كلها ظواهر عنف قديمة بأدوات حديثة. ما كان لهذه الظواهر أن تبلغ مداها اليوم لولا توفّر التقنيات وسهولتها من جهة وتعثر الردّ بحكم ارتباط العنف بالدين من جهة ثانية.
التقنيات جاءت لتبقى. كل حديث عن حرمان العنف الإرهابي من تقنيات التواصل الاجتماعي أو التحويلات المالية أو منابر الإعلام لا يمكن أن يتحقق. هي سلسلة معارك تقنية أشبه بتلك التي تخوضها الشركات والحكومات مع القراصنة المعلوماتيين. يتم سد الثغرات لتظهر ثغرات أخرى. تحارب منبرا على فيسبوك ليظهر شبيهه على تويتر. تغلق موقعا على الإنترنت، فيتناسل ويظهر في مكان آخر. الردّ التقني تعطيلي ولكنه ليس شافيا.
الردّ الأهم هو الرد الثقافي. لو تتبّعنا مسيرة العنف في التاريخ سنجد أن ما هذّب سلوك الإنسان أو أشعل الغرائز هو صعود وهبوط مؤشر الثقافة في رقيّ الحياة البشرية. من دون ردّ ثقافي لا علاج لدينا إلا عنف مضاد قد تمارسه الدول أو الجماعات. وإذا كان ثمة حكمة تعلّمها البشر فهي أن العنف يولّد العنف المضاد.
الثقافة هي الوسيلة للخروج من الحلقة المفرغة. الثقافة الفاعلة هي البديل المجرّب في مواجهة الغرائز وتبريراتها الفكرية والدينية، وهي الثقافة بمعناها الأشمل وليس ثقافة الشعر والفنون فقط. هي ثقافة العيش وقبول الآخر مثلما هي ثقافة مشاهدة مباراة كرة القدم والاستمتاع بها..
مجلة الجديد اللندنية