هل يخطّط التحالف الدولي لتسليم الحدود للأكراد؟
تواصل «وحدات حماية الشعب» الكردية «حملة الشهيد كلهات»، التي أطلقتها في الثاني عشر من حزيران الحالي، والتي تهدف الى تحرير مدينة تل ابيض الواقعة عند الحدود السورية – التركية من مسلحي «داعش».
ويسعى المقاتلون الأكراد للسيطرة على تل أبيض، التي يقطنها سكان من العرب والأكراد والواقعة تحت سيطرة «الدولة الاسلامية» منذ حوالي سنة، بهدف حرمان التنظيم المتشدد من نقطة مهمة لعبور أسلحة ومقاتلين إلى سوريا من تركيا، علما أن تركيا تقفل المعبر رسمياً، فيما تتردد معلومات عن تلقي مسلحي «داعش» دعماً عسكرياً عبر الحدود التركية.
وأمس تقدمت «وحدات حماية الشعب» باتجاه معاقل «داعش» في تل ابيض، من الجنوب والشرق، بعد وصول تعزيزات كردية من الجزيرة وعين العرب (كوباني). وسيطر المقاتلون الاكراد على المعبر الحدودي بين مدينة اقجه قلعة التركية وتل ابيض السورية من مسلحي التنظيم التكفيري.
وبحسب مصدر ميداني فإن الوحدات الكردية وقوات غرفة عمليات «بركان الفرات» التي تضم فصائل عربية معارضة تمكنت من السيطرة على قرية جيسيرية، وقطعت الطريق الواصل بين الرقة وتل أبيض. وأضاف المصدر ان عدداً كبيراً من مسلحي «داعش» فروا من تل ابيض إلى الرقة قبل السيطرة على القرية.
ويأتي تقدم الوحدات الكردية تحت غطاء جوي من قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، حيث سيطرت القوات الكردية على أكثر من 20 قرية في منطقة تل ابيض بريف الرقة في الساعات الأخيرة من المعارك.
لا تدخل مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا ضمن كانتونات «الإدارة الذاتية» التي أعلن عنها «حزب الاتحاد الديموقراطي» منذ مطلع العام السابق، والتي تشمل كلاًّ من القامشلي (الجزيرة) وعين العرب (كوباني) وعفرين.
لذلك فإن تقدم «وحدات حماية الشعب» الكردية تحت غطاء كثيف من القصف الجدّي لطائرات التحالف الدولي، حتى أصبحت قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على المدينة، يحمل العديد من الدلالات العسكرية والسياسية، لاسيما على ضوء افتراضات سابقة بأن التنسيق بين التحالف الدولي وبين الأكراد يشمل مناطق الإدارة الذاتية فقط ولا يتعداها إلى غيرها.
وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى الدور الذي يعطيه التحالف الدولي للمقاتلين الأكراد في إستراتيجية محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» – «داعش» وأين يمكن أن يتوقف؟ وعما إذا كان «الدولة الإسلامية» سيستمر في تكتيك الانسحاب الذي اتبعه منذ خسارته في معركة عين العرب، أم لديه خطة بديلة لمواجهة هذا التقدم، لاسيما أن معقله في الرقة بات مهدداً بشكل جدي؟.
وسيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية على مدينة تل أبيض، في ما لو تحققت كما هو متوقع، تعني أن ثمة مخططا مدروسا بعناية، يقضي بعدم الاكتفاء بالتنسيق مع الأكراد لبسط سيطرتهم على الكانتونات الثلاثة التي تشكل مناطق «الإدارة الذاتية»، وإنما توسيع هذا التنسيق إلى مداه الأقصى، على نحو يؤدي إلى تحقيق الربط الجغرافي بين هذه الكانتونات، وتحويلها إلى شريط متصل من المدن والبلدات على طول الحدود التركية، عوضاً عن أن تظل منفصلة ومتباعدة يفصل بين الواحد منها والآخر جيب جغرافي. حيث تفصل مدينة تل ابيض بين رأس العين وبين عين العرب، ويفصل الجيب الممتد بين جرابلس وإعزاز بين عين العرب وعفرين. ويفترض أن هذا الشريط يمتد من القامشلي في الشمال الشرقي إلى عفرين في الشمال الغربي.
ومن شأن هيمنة «وحدات حماية الشعب» الكردية على هذا الشريط كاملاً أن تُبعد «الدولة الإسلامية» نهائياً عن الحدود التركية، وبالتالي خسارته المعابر وخطوط الإمداد والتهريب التي كان يستخدمها في استقدام «المقاتلين الأجانب»، أو إدخال شحنات الأسلحة وكافة المواد التي يحتاجها لإدارة مناطق سيطرته، مدنياً وعسكرياً، وبالمقابل إخراج النفط والآثار وغيرها من المواد الثمينة التي يبيعها إلى الطرف التركي، عبر وسطاء وتجار وعصابات مافيا مختصة بالتهريب.
لكن من شأنه أيضاً أن يضع تركيا أمام أسوأ كابوس قد يواجهها في تاريخها، وهو أن ترى مقاتلين أكرادا يسيطرون على كامل شريطها الحدودي مع سوريا، في خطوة قد تكون تمهيداً لإعلان دولتهم المستقلة فيما لو سمحت التوازنات الإقليمية والدولية بمثل هذا الإعلان.
وبصرف النظر عن ذلك، فإن مجرد سيطرتهم وتواجدهم على حدودها ستقرؤه أنقرة على أنه تهديد وجودي لها، وربما هذا ما يفسر التصريحات النارية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول قيام الأكراد بتهجير العرب والتركمان من تل أبيض بمساعدة التحالف الدولي، متسائلاً، في تصريحات أدلى بها أثناء عودته من أذربيجان، «كيف لنا أن ننظر بإيجابية لما تقوم به قوات التحالف في هذه المنطقة. كيف لنا أن نثق بالغرب. إنّها مستجدات لا تبشّر بالخير». وقد تلعب تركيا دوراً في منع تحقيق هذا المخطط، مدفوعة بعدائها التاريخي للأكراد، من دون أن يكون واضحاً ما يمكنها القيام به على الأرض.
وليس الرفض التركي العقبة الوحيدة التي ستواجه مثل هذا المخطط، فهو سيصطدم بعقبات عديدة قد تحول دون وصوله إلى خواتيمه، يأتي في مقدمتها أن الشريط الحدودي لا يقع كله تحت سيطرة «الدولة الإسلامية»، فالقسم الأكبر الممتد من جرابلس إلى دوديان هو بيد التنظيم، وبالتالي يمكن للتحالف الدولي والمقاتلين الأكراد استكمال الهجوم عليه بالذريعة المعتادة وهي محاربة «داعش». أما القسم الممتد بين حوار كلس وإعزاز فهو ما يزال بيد «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» وبعض فصائل «الجيش الحر»، ومن المستبعد أن يشمله الهجوم لانعدام الذريعة على الأقل.
لكن هنا لا يمكن إغفال نقطة في غاية الأهمية، وهي أن تنظيم «الدولة الإسلامية» بدأ منذ حوالي ثلاثة أسابيع هجوماً عنيفاً على ريف حلب الشمالي، يستهدف من خلاله السيطرة على مدن مارع وتل رفعت وإعزاز الحدودية. وقد يكون هذا الهجوم محاولة منه لتعويض هزيمته المحتملة في تل ابيض، وتدارك خسارته لمعبرها الحدودي من خلال السيطرة على المعبر الحدودي في إعزاز. غير أن هذه الخطوة، خاصة في ما يتعلق بالسيطرة على مارع وتل رفعت، من شأنها أن تشكل في الوقت ذاته تهديداً حقيقياً على مدينة عفرين (الكانتون الثالث في الإدارة الذاتية). وهو ما يفسر أمرين اثنين، الأول التصدي الشرس الذي تجابه به «جبهة النصرة» وحلفاؤها هجوم «داعش»، لأنها لا تريد أن تخسر المعبر الحدودي الوحيد الذي يؤمن لها الإمدادات إلى معاقلها في حلب، والثاني الغارات التي تنفذها طائرات التحالف الدولي على محيط صوران لمنع «داعش» من التقدم في المنطقة. ورغم أن هذه الغارات، التي تكررت للمرة الثانية أمس الأول، تحقق مصلحة كبيرة لـ «جبهة النصرة»، إذ تعرقل تقدم خصمها، إلا أنها في الحقيقة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الهدف النهائي هو تنفيذ المخطط السابق القاضي بربط الكانتونات الثلاثة مع بعضها، وتسليم الشريط الحدودي بكامله من القامشلي إلى عفرين إلى المقاتلين الأكراد.
وسيلعب الوقت دوراً كبيراً في تحديد مصير هذا الشريط، خاصةً في محيط إعزاز، حيث قد تتغير أولويات الفصائل المتواجدة هناك من محاربة «داعش» إلى الضغط على مدينة عفرين.
وقد يكون البيان الذي أصدره، أمس، خمسة عشر فصيلاً من كبار الفصائل الإسلامية، على رأسها «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» و «جيش المجاهدين» و «تجمع فاستقم كما أمرت»، حول تطورات تل ابيض دليلاً على أن هذه الفصائل قد لا تسكت أكثر من ذلك، مع عدم استبعاد وجود إيحاء تركي لهذه الفصائل بضرورة التحرك.
واعتبر البيان أن ما يحدث هو «حملة تطهير عرقي وطائفي بغطاء جوي من طائرات التحالف»، لافتاً إلى أن «هذه الخطوة تأتي استكمالا لمخطط تقسيم تعمل عليه أطراف محددة، على رأسها حزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية، بالتعاون مع أطراف إقليمية ودولية، في خطوة ستكون كارثية على مستقبل سوريا والمنطقة».
وإذ شدد البيان على «وحدة سوريا وأراضيها ورفض التقسيم»، وعلى «الروابط الدينية والتاريخية بين الأكراد والعرب»، فإنه لوّح بالتهديد «بأن قوى الثورة السورية المدنية والعسكرية سترد بحزم على كل المتورطين في هذا العمل الإجرامي».
وفي حال كان التهديد جدياً، فإنه لا مجال أمام هذه الفصائل للتحرك إلا في محيط مدينة عفرين، وقد يكون ما له دلالته أن «جبهة النصرة» بدأت بمنع الأكراد من الخروج من عفرين عبر الأراضي التي تسيطر عليها بحسب شهادة بعض المواطنين هناك. وهو ما يرشح هذه المنطقة لاحتمالات التصعيد، كما يفسر غارات التحالف الدولي، بأنها ضربات استباقية تهدف إلى خلط الأوراق في المنطقة قبل التفرغ لها.
فهل يتوقف الاعتماد على «وحدات حماية الشعب» الكردية عند حدود هذا المخطط أم أن محافظة الرقة داخلة فيه أيضاً؟ وهل سيستمر تنظيم «الدولة الإسلامية» في إتباع سياسة الانسحاب على إيقاع قصف طائرات التحالف أم أنه عند خط معين سيغير من تكتيكه ويقرر خوض معارك المدن المتبقية بيديه حتى النهاية، وبغض النظر عن الخسائر؟
والأهم من هذا وذاك، ألا تشير التطورات المتسارعة إلى أن ثمة من يعمل على دق إسفين بين الأكراد والعرب، وبالتالي إشعال جبهات قتال بينهم، تتويجاً لحالة الفوضى السائدة في عموم البلاد؟ وفي حال انسحاب «داعش» من الشريط الحدودي على وقع التقدم الكردي، المدعوم بالتحالف، فما هي المنطقة التي ستدفع ثمن هذا الانسحاب ويختارها «داعش» لتعويض هزائمه؟
أسئلة قد يبدو من المبكر طرحها والتفكير فيها، لكن الساحة السورية، بما هي مقبلة عليه من تطورات دراماتيكية خلال هذا الصيف، قد لا تحتمل تأجيل طرح هذه الأسئلة أو سواها.
صحيفة السفير اللبنانية