هندسة اقتصادية جديدة لمناطق الجولاني: تركيا تمهّد لفتح «M4»
على خلاف ما يتمّ تناقله بين وقت وآخر حول انسحاب «هيئة تحرير الشام» من منطقة عفرين وعودتها إلى إدلب، تمكّن زعيمها، أبو محمد الجولاني، من فرْض نفوذه في المنطقة التي دخلها خلال بضع ساعات قبل نحو ثلاثة أسابيع، سواءً عبر نشْر قوّاته الأمنية في المدينة ومحيطها، أو عن طريق سيطرته على المعابر بالشراكة مع «حركة أحرار الشام» التي باتت جزءاً من «تحرير الشام». وبهذا، أضحت الأخيرة على احتكاك مباشر مع «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، وفُتح أمامها طريق مباشر لتهريب النفط من الشمال الشرقي من سوريا، إلى أقصى الشمال الغربي في إدلب. وبينما شغلت قضية نقص المحروقات في إدلب الرأي العام، إثر فرْض «تحرير الشام» إجراءات جديدة حلّت بموجبها شركة «وتد» (إحدى أذرع الجولاني الاقتصادية)، ظهرت على الساحة مجموعة شركات بدأت بنقل النفط من مناطق «قسد» إلى إدلب، في أعقاب إزاحة «الفيلق الثالث» (بقيادة الجبهة الشامية التي حاولت تشكيل جبهة مضادّة للجولاني) من المعابر مع «الإدارة الذاتية»، الأمر الذي يعني حرمان «الجبهة» من أحد أبرز مصادر دخلها.
وتناقلت أوساط «جهادية» وميدانية أنباءً مختلفة حول سبب حلّ شركة «وتد»، وسط حديث عن عملية سرقة نفّذها أحد مدرائها، فيما لم يتمّ التأكّد من هذه الرواية من مصدر محايد. لكن في الصورة الأعمّ، تشي المعطيات بأن ما يجري حالياً عبارة عن عملية إعادة هندسة اقتصادية وعسكرية، تتمّ بشكل هادئ للمنطقة التي تسيطر عليها «تحرير الشام». إذ إن «وتد»، التي عملت في تلك المنطقة طيلة السنوات الخمس الماضية، تدور حولها شبهات تحدّ من قدرتها على فرض نفسها، ما استدعى حلّها والاعتماد على شركات أخرى، بما يضمن استمرار عمليات نقل النفط من معاقل «قسد» بشكل مباشر، إضافة إلى إمكانية توسيع عمل هذه الشركات مستقبلاً لتشمل جميع المساحات الخارجة عن سيطرة الحكومة في الشمال السوري.
في هذا الوقت، عقد مسؤولون عسكريون وأمنيّون أتراك، خلال الأيام الأربعة الماضية، سلسلة لقاءات منفردة مع قادة الفصائل المنتشرة في ريف حلب، تبعها لقاء مباشر جمع قياديين من «الفيلق الثالث» والجولاني، الذي رافقه في الجلسة القيادي البارز في «تحرير الشام» أبو ماريا القحطاني، والذي يُنظَر إليه على أنه مهندس التحوّلات في «الهيئة». وبحسب مصادر ميدانية تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن «الفيلق الثالث» خضع للأوامر التركية بوقْف الاقتتال، خصوصاً أن هذه الأوامر مثّلت له طوْق نجاة بعد أن تمكّن الجولاني من التهام مساحات واسعة خلال وقت قصير. وتشير المصادر إلى أن المفاوضات تدور حالياً حول إمكانية إنشاء «إدارة مشتركة» وفق التوصيات التركية، مضيفةً أن الاجتماعات العديدة التي عُقدت خلال الفترة الماضية، والتي يُتوقّع استمرارها لبضعة أسابيع أخرى، تتناول كيفية تقاسُم مصادر الدخل، بعد أن خسر «الفيلق» معبر الحمران الفاصل بين مناطق سيطرة «قسد» ومناطق الفصائل.
كذلك، تشير المصادر إلى أن تركيا ركّزت، خلال الاجتماعات المكثّفة مع الفصائل، على نقطة وحيدة اعتبرتْها الأكثر أهمية في الوقت الحالي، وهي التهدئة وعدم محاولة تغيير خريطة السيطرة بالقوة، الأمر الذي يعني أن إمساك الجولاني بعفرين بات بحُكم الأمر الواقع، على الرغم من الدعاية المقصودة التي تَظهر بين وقت وآخر حول إعادة عناصر تابعين لـ«تحرير الشام» إلى إدلب. وتعزو المصادر هذه الدعاية إلى محاولة تبريد الأجواء الساخنة من جهة، وكسْب مزيد من الوقت لتمتين حضور «تحرير الشام» في المناطق التي سيطرت عليها، والتي تُعتبر خارج إعفاءات قانون العقوبات الأميركي (قيصر)، من جهة أخرى. والجدير ذكره، هنا، أن الإعفاءات تشمل منطقتَي أعزاز والباب اللتَين سيطر عليهما الجيش التركي بعد طرْد تنظيم «داعش»، ما يفسّر أيضاً منْع تقدّم الجولاني إلى أعزاز، علماً أنه يسيطر بشكل غير مباشر في الوقت الحالي على الباب في ريف حلب الشمالي الشرقي من دون أن يَدخلها.
في غضون ذلك، استقدم الجيش التركي مزيداً من التعزيزات العسكرية إلى ريف إدلب الجنوبي الغربي، حيث استحدث نقطتَين جديدتَين على خطوط التماس مع مناطق سيطرة الجيش السوري في جبل الزاوية، لترتفع بذلك نقاط انتشاره في المنطقة إلى أكثر من 20. وتربط مصادر ميدانية هذه التعزيزات بتمهيد الأرض لفتح طريق «M4» الذي يصل حلب باللاذقية، والذي تعهّدت أنقرة بفتْحه قبل سنوات، بالإضافة إلى تثبيت معابر دائمة تصل إدلب بمناطق سيطرة الحكومة السورية لتسهيل إدخال المساعدات عبر الخطوط، وتشريع الباب أمام الراغبين في العودة وتسوية أوضاعهم، وفق مقتضيات التقارب مع دمشق.
صحيفة الأخبار اللبنانية