وداعاً أيتها الديموقراطية؟ (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

Iـ ماذا بقي من الأوطان!

السقوط منتشر والبلاد مبادة. بلاد لم تعد بلاداً. عرب ما عادوا عرباً. شعوب قلّ انتماؤها إلى الجنس البشري. مدى عربي مباح للبربرية.
الآمال انسحبت والكثرة تبرأت من السياسة. انتظارات التحرر والديموقراطية والحياة بجباه عالية، أفضت إلى خيارات الانتحار. الخوف سيد هذه البلاد. البشاعة تحف بالخراب الكبير. لم تعد حسابات الخسائر مجدية. عدّاد القتل والسفك والنحر فاق مستويات احتمال اليأس.
كانت لنا، منذ قرن، منذ نصف قرن، أحلام وآمال وتطلعات وخيارات. هذا زمن انتهى. هذا تاريخ ناصع الخسارات، ولكنه تاريخ فعل. ما كنا نحسبه طريقاً إلى الدولة والنظام والعدالة والكرامة والانتماء، أخذنا إلى فتنة السلاح، وفتنة العقائد، وفتنة المذاهب وسيطرة العنف والقمع والاضطهاد وفلتان الغرائز (باسم التعددية) فصارت البلاد خراباً، والبحث يدور حول أي المنافي أفضل، وأي لجوء جدير بالنجاة.
لا شعاع يجرح سطوة هذا الظلام العربي.
لدينا شعور بأننا مطرودون من «أوطان».
فوداعاً أيتها الأوطان، وداعاً أيتها الديموقراطية.
وهذه ليست مرثاة، بل هي تمهيد لما سيلي:

II ـ الاستبداد يلد العنف

لم نتعرف إلى مشهد يشبه المشهد العربي الراهن. لم نحص خسائر أفدح. لم نعرف آلة قتل تحصد بهذا المستوى من الجدارة. ما سبق أن بلغنا في السياسة هذا العجز المخيف. لا سلطة اليوم في هذه البلاد، غير القتال والتقاتل والتذابح.
لنبدأ التعداد. تدليلا على أن الأزمة المزمنة والمستفحلة هي أزمة بناء سلطة، بسلام، بحرية وبديموقراطية.
مغامرة المعاينة تقودنا إلى سوريا. بعد ثلاثة أعوام، بدت البلاد آيلة إلى السفك. لا شعار يعلو غير شعار الحسم في الميدان.
انتهت الثورة إلى مزاولة الحرب. النظام غير عابئ بالقتل وجنونه. لا سلطة تعلو فوق سلطة المعارك والسلاح. لقد نفذت سوريا حكم الإعدام، بكل أمل ضئيل ممكن. طموح كبير، أن يعلن وقف اطلاق نار إلى أيام أو ساعات. كل المحاولات فشلت. طموح عظيم، ان يتوقف القتال. ومع ذلك، فالنظام ذاهب إلى «انتخابات رئاسية»، يفوز فيها الرأس، فيما الجسد يتبدد ويتحطم.
محاولات الدول لإنشاء سلطة انتقالية، باءت بالفشل والانهيار. النظام يدافع عن سلطة بالعنف المتمادي، والمعارضة تحارب سلطة بعنف غير مسبوق، وبمستوردات مذهبية وأقوامية، ذات نهج عدمي… عدمان، لا يصنعان وجوداً.

III ـ العنف يلد الاستبداد

العراق، ليس أفضل حالاً. الانتخابات الماضية أنتجت سلطة مأزومة. الطوائف، في السياسة، تنشئ حالة عداء، الاسلاميون السنة، لا يلتقون مع الاسلاميين الشيعة، إلا نادراً، السياسة والسلطة تفرقان بينهم. تسلط السلطة «المنتخبة» أفضى إلى غلبة الشيعية السياسية. انصرفت السنية السياسية إلى الحرد، فالإضراب، فالعنف، فـ «داعش».
أزمة بناء السلطة «من فوق»، ديكتاتورية تفرط في العنف والقمع. ومشروع بناء سلطة «من تحت» منقسم أقواميا ومذهبياً، بأسلوب الاقتراع، يؤدي إلى سلطة متصدعة، تتآكل من الداخل، لتصل إلى انقسام واستفراد. المالكي نموذجاً.
المجتمع مريض بمذاهبه وأقوامه. إذاً، السياسة فيه معتلّة. لا سلطة واحدة في العراق، السلطة المركزية، مستقوية في مطارح، متخلية في أماكن. الرئيس مريض، لا يستبدل. كردستان في حالة إعفاء من المأساة مؤقتاً، فيما العراق المتبقي، يعيش على إيقاع عنف يومي. ولا أمل بوقفه قريباً.

IV ـ فلسطين: العنف المؤجل

مغامرة المعاينة في فلسطين، ترينا سلطة منقسمة بحدي العنف والأسلمة. واحدة تحت الاحتلال، وأخرى داخل الحصار. حتى العداء لإسرائيل لا يجمعهما. سلطة أبو مازن انتهت قانونياً، من زمان. سلطة «حماس» قامت بالقوة وانتزعـت حضـورها «الشرعي» بأسلوب لا شرعي. انتهت صلاحية السلطتين. الأولى تفكر بتفكيك أجهزتها وتسليم السلطة لهيئات المجتمع الدولي. قلت: تفكر، ولكنها لن تفعل. «حماس» مشغولة بـ«الاخوان» أكثر من اهتمامها بوحدة السلطة ووحدة القرار ووحدة القضية.
سؤال: ألا يكفي ما ترتكبه اسرائيل، لإقامة سلطة جديدة، تأخذ على عاتقها أن تحشد من القوة ما يفيد، للدفاع عما تبقى من فلسطين على الأقل.
سلطتان على الفراغ. سلطتان فلسطينيتان بلا فلسطين. كل المؤسسات الفلسطينية مشلولة أو منهكة أو في حالة عجز. وهي لا تزال تدب في سرداب مقفل من طرفيه.
هرمت السلطتان، فيما فلسطين لا تزال تنتظر ولادتها.

V ـ نكسة «يوليو» في مصر
و«جماهيرية» السلاح

صحوة مصر الرائعة، انتهت أولاً إلى كابوس «إخواني»، ثم إلى استعادة الحنين إلى الديكتاتورية. فشلت ثورة مصر في بناء سلطة بديلة عن الاستبداد المستفحل والمزمن. «الجماهير» الرائعة لم تنجز مهمتها في بناء البديل. الأخوان سرقوا السلطة بصناديق الاقتراع. التيار المدني لم يفرز قيادة مؤهلة. الاسلاميون أكثر منهم عدداً. هذا منطقي جداً في مجتمع يسلم أمره إلى تدين يجره إلى السياسة بالآية: سلطة «الاخوان» كانت شرعية ولم تكن ديموقراطية. استأثرت بالسلطة. شرعيتها التي من «تحت» بالانتخاب، أعطتها «حق» أن تحكم بأحكام تأتيها من فوق. من الله ومن الدين. وعندما يتدخل الله في السلطة، أو عندما يتم ادخاله فيها، تصبح السلطة سلطة الأمر، لا سلطة الشورى.
العسكر أنقذ مصر من «الاخوان». فمن ينقذ السلطة غداً من العسكرة؟.
ليبيا، باتت جماهيرية شعبية، دينية، جهادية. مسلّحة. لا سلطة فيها لغير العنف. من يتولى السلطة فيها، لا سلطة له. السلطة موزعة على جهات وحركات وأحزاب وجماعات وإسلامات، متناحرة متذابحة وهائجة. سلطة منقسمة من كل الجهات.
«نبي» الثورة في ليبيا، برنارد هنري ليفي، توقع زوال الديكتاتورية الاحادية، وإقامة نظام ديموقراطي قوامه الحرية… صدق التوقع بالمقلوب: زالت ديكتاتورية الفرد الواحد الأحد، وورثته ديكتاتوريات، على شكل عصابات. والحرية الموعودة، باتت لعنة…
إن الأصنام تقاتل بعضها، ولا راحة لأرض ليبيا. ولا رجاء.
اليمن وليمة القبائل. اقتسمته ولم تشبع بعد. تريد أكثر. أزمة بناء السلطة مستعصية. اقتراح «التعدد القبلي» يجعل السلطة متشظية. مرجعية السلطة الواحدة منعدمة. لا تنجح في إقامة توازن بين الأضداد. كأن اليمن مدعو لأن يتلبنن، كما حصل في العراق، أو كما هو متوقع أن تؤول إليه الحال في سوريا. الرئيس في اليمن، رئيس بالأمر الواقع وبالتراضي، وليس بالرضى عنه. نزوع الأقاليم الستة إلى ممارسة السلطة المحلية، لا يمكن توقع نجاحه في ظل غياب قوى مدنية حقيقية… في غياب المواطنة، تصير السلطة ارتكاباً، حتى ولو كانت منبثقة بالانتخاب. لأنها ستكون سلطة تابعة لقوى الأمر الواقع القبلي، أو الطائفي. لبنان مثال على انعدام السلطة، أو في أحسن حال، على ضعفها. لأنها نتاج آلية ديموقراطية ممسوكة من قبل قوى الأمر الواقع الطائفي والمذهبي.

VI ـ إما العسكر وإما الإسلاميون

الجزائر، بنت المليون شهيد، غرقت في أبد سياسي سلطوي مغلق. أبدٍ صنعه العسكر، ولم تصنعه الثورة. البداية، كانت ديموقراطية ثورية مع بن بيللا. انقض عليها أبو مدين ورفاقه، وتحكموا بالبلد. حكم أورث احتقانا تفجر مع «جبهة الانقاذ الإسلامية» بقيادة عباس مدني. تراخت قبضة العسكر قليلاً من أجل الاتاحة لجرعة قليلة من الديموقراطية. فازت «الجبهة» بأكثرية المقاعد. لم تقطف الفوز. هجم العسكر على العملية الانتخابية ودمرها. وانفتحت أبواب الجحيم، بين العسكر والإسلاميين، لعشرة أعوام، خسرت فيها الجزائر ثورتها وأجيالها.
المشهد الأخير مضحك إلى حد البكاء. بوتفليقة، الغائب عن الوعي تقريباً، يقترع لنفسه رئيسا لولاية رابعة. السلطة في الجزائر مدنفة. العسكر خائف من التغيير. وكأن القدر السياسي العربي مختوم بثنائية قاتلة: إما العسكر وإما الاسلاميون. يا للكارثة!
ماذا بعد؟
الصومال لم يعد موجوداً. غير قابل للتداول. متروك لأيامه السود. السودان منقسم، فيما رئيسه البشير متشبث بعصاه.
الممالك والامارات العربية، تتأبط أسرارها وتحميها من العلانية. مؤامرات القصور مكتومة. لا تظهر إلا بعد صدور الأمر الملكي بالترقية او بالعزل… ممالك الأسرار خائفة على سلطانها. من حركات تشبهها، حركات إسلامية أيضاً. أسفر الخوف عن شن حملة شعواء على «اخوان» وأشباههم، السبب ليس اسلاميتهم، بل خوفاً على سلطتهم منهم.
ولولا ثروات تحمي عروشهم، لكانوا تعرضوا إلى ما أصاب جمهوريات ديكتاتورية، فقيرة أو مفقرة.
خارج هذا السرب العربي القاحل سياسياً، تقف تونس على عتبة مفتوحة على المستقبل ومطلة على الأمل، بإقامة سلطة منبثقة من شرعية شعبية، في نظام مدني تعددي ديموقراطي، مقيد بالحقوق والحريات، مؤسس على قاعدة المواطنة. زميلي خليل حرب في «السفير» يشير إلى أن ثقل القوى المدنية في تونس، ألزم القوى الاسلامية بالتراجع والتنازل. «الاخوان» في تونس رضخوا، لأن «القوى المدنية» أقوى. وهذا أمر لم يتوفر في أي بلد عربي من المحيط إلى الخليج.
خلاصة أولى: بناء سلطة بديلة عن الديكتاتورية، تستند إلى شرعية شعبية وتمارس الحكم عبر مؤسسات ديموقراطية، غير متاح لضعف المجتمع المدني وقواه. فالتعدد المذهبي والاثني والطائفي والجهوي، يمنع قيام نظام بديل عن الديكتاتوريات والملكيات. الحركات الإسلامية، غير جديرة بأن تكون الوريث المناقض للديكتاتورية. انها ديكتاتورية «بأمر إلهي».
خلاصة ثانية: باستثناء تونس، النموذج الوحيد الذي يمكن تقليده، هو النموذج اللبناني الفاشل. ولهذا قول آخر، في مقالة تالية. إن لبننة الانظمة العربية، هي البديل عن العسكرة او الأسلمة، يا للفشل الذريع!. يا للنموذج الفاشل!.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى