ومَن يتذكّر محمّد تازروت؟

.. ومَن يتذكّر محمّد تازروت اليوم؟ هكذا تساءلتُ قبل عشر سنوات في فقرة رثائية عن موت الثقافة في بلادنا.. مَن يعرف هذا المفكّر الجزائري الكبير: “محند”؟ كما يُنطَق اسمه في اللّغة البربرية، فيلسوف التاريخ وعالِم الحضارات، والكاتب الموسوعي و الجرماني والمُترجِم. مَن يعرفه خارج الجزائر؟ وحتّى في الجزائر نفسها؟ كان لا بدّ أن تمرّ أربعون سنة على وفاته لينتبه إليه عددٌ قليل من الأساتذة والمثقّفين. لماذا؟

لأسباب عدّة، منها السياسي، فالرجل اختار الاندماج مع الاستعمار، وهو في العشرينات من عمره، حتّى أنّ عائلته أنكرته في حينها بسُبلٍ شَتّى. ومنها الأكاديمي، فالمؤسّسة الأكاديمية استولَت على التصنيف العلمي، كما يحلو لسياساتها الثقافية، ووضعت ثبْتاً خاصّاً برجال النهضة. حيث إنّها بدورها وقَعت تحت تأثير المدرسة الاستشراقية، وتحوّلت إلى نوعٍ من الاستشراق المحلّي L’orientalisme indigène (راجع عبد الرحمن بدوي – الجزء الثاني من المذكّرات عن سيطرة الاستشراق الفرنسي على جامعات المغرب العربي)، فلم يأتِ ذكر محمّد تازروت في أيٍّ من الكُتب التي وُضِعت حول النهضة. لم يُذكَر في كتاب “الفلسفة العربية في مائة عام”، الكتاب الجماعي الصادر عن الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1962 تحرير خليل الجر؛ ولم يذكره ماجد فخري في تأريخه للفكر العربي الحديث، ولا أثبته فهمي جدعان في “فهرست أعلام النهضة” الذي أورده في كتابه “أُسُس التقدّم عند مفكّري الإسلام في العالَم العربي الحديث”. ولم يذكره سيسل حوراني في كتابه “الفكر العربي الحديث”، ولا هشام شرابي في “المثقّفون العرب و الغرب”؛ وعندما وضع عبد الله العروي رسالته Les idéologies arabes contemporaines تحت إشراف مكسيم رودنسون، لم يذكر من الأسماء، سوى تلك التي كانت مُتداوَلة في المؤسّسة الاستشراقية التي اعتمد. وظلّ كثير من أسماء رجال النهضة العرب منسيّاً و مجهولاً، ما دفع المثقّفين خارج جدران الجامعات إلى البحث عن نصوص وأسماء نهضويّين مغمورين، ونشر أعمالهم، كما فعل رياض نجيب الريّس في سلسلة “النصوص المجهولة” التي أصدرها.

محمّد تازروت واحد من بين هؤلاء المجهولين، عاش و مات في الظلّ، على الرّغم من الأعمال الفلسفية والترجمات الكبيرة التي أنجزها. نشر حوالي عشرين عنواناً في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والتاريخ الثقافي والتربية والترجمة والسياسة؛ إلّا أنّه ظلّ غائباً عن مدوّنة النهضة. وأنا لا أريد أن أحيط الرجل بهالة من الغموض الرومانسي وأحوّله إلى أسطورة؛ بيد أنّ حياته شبيهة بالأسطورة في غموضها المنسرح، ذاك الغموض الذي أسهم هو نفسه في أن يلفّ به حياته، ربما حفاظاً عليها، وبالأخصّ في سنوات الخمسين، حيث اتّسمت بالاضطراب، إبّان مرحلة الثورة الجزائرية التي كثرت فيها المطاردات والاغتيالات السياسية؛ وذلك من خلال رواية سيرة خيالية إلى رئيس تحرير جريدة “المجاهد” الجزائرية؛ وهذه السيرة عبارة عن سيناريو يروي أسفاراً إلى مصر وإيران وروسيا والصين، وأنه جاور الأزهر سنة 1913، وتعلّم في تنقّلاته على التوالي اللّغات: الفارسية والروسية ولغة الماندرين في شمال الصين. ومُتّكِئاً على هذه الأسطورة، ينقل الأستاذ سليمان بن عزيز عن الدبلوماسي الجزائري والسفير الأسبق في الاتّحاد السوفياتي الحاج محمّد يعلى، الذي زار سنة 1980 منغوليا، ووجَد الناسَ ما تزال تتذكّر فيها الرجل الجزائري الذي مر ّ من هناك قبل 50 سنة، حيث تعلّم اللّغة المنغولية وترك لهم طريقة في الكتابة، ما تزال ماثلة إلى اليوم (راجع بحث نجمة عبد الفتّاح العلمي المنشور في كتاب المعارف الألمانية في شمال إفريقيا من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، منشورات بوشان 2012) .

وُلد محمّد تازروت سنة 1893 في القرية التي أسّستها عائلته ومنحتها اسمها تازروت.. تازروت المتوحّدة والضائعة وسط جبال البربر في تلك الأزمنة من أواخر القرن التاسع عشر. حفظ القرآن عن والده، ثمّ التحق بالمدرسة العليا للمعلّمين (بوذراريح) في الجزائر العاصمة، حيث أكمل دراسته سنة 1912 وعُيّن معلّماً في مدرسة “ثنية الحدّ”. بعد ذلك تبدأ الرواية الخيالية والحقبة الغامضة من حياته، والتي لا تستمرّ سوى بضعة أشهر؛ ففي الوثائق أنّ محمّد تازروت طلب الجنسية الفرنسية وحصل عليها، وبعدها مباشرة، أي في العام 1914، انخرط بالجيش الفرنسي، والتحق بالجبهة، وجُرح بعد شهر من مشاركته في القتال، ثمّ أسره الألمان في بلجيكا، و في أثناء أسره، تعلّم الألمانية واختصّ بها، ووضع في ما بعد كتاباً في تعلّم الألمانية.

تازروت مفكّراً

أمّا محمّد تازروت المفكّر ، والذي يهمّنا هنا، فقد كان رجلاً مُنخرِطاً في ثقافة عصره. ففي اللّحظة التي كان ينقل فيها هنري كوربان نصّ: “ما الميتافيزيقا؟” لمارتن هايدغر إلى الفرنسية، أواخر عشرينيّات القرن الماضي، كان تازروت يُقدّم للفرنسيّين فلسفة أوزفالد شبنغلر، ويُترجم كتابه “أفول الغرب” Le déclin de l’Occident ليصدر عام 1931 عن دار غاليمار، وهي الترجمة المعتمَدة إلى اليوم.

ويُعدّ شبنغلر من أهمّ فلاسفة التاريخ بإطلاقٍ بعد هيغل، وقد مارَسَ تأثيراً كبيراً على مفكّرين متعدّدي النزعات.. من فتغنشتاين إلى أرنولد توينبي إلى تازروت نفسه. بيد أنّ التيار الفلسفي المُعادي لألمانيا، الذي يمثّله ليفيناس، بدعوى أنّ فلسفة شبنغلر تشكّل الجذور العميقة للنازية، وهي التُّهمة نفسها التي وُجّهت لأعمال فريدريك نيتشة، وأيضاً استُخدمت هذه التُّهمة في الهجوم على هايدغر ، بدعوى انتمائه للحزب النازي؛ ولكنّ هذا التيّار، هو رافض في عمقه للهللينية وللفلسفة اليونانية كمرجعية وهويّة أساسية لحضارة الغرب المعاصر، واستُبدلت هذه الهويّة منذ السبعينيّات من القرن الفائت لتصير يهودية مسيحية judéo -chrétienne … ومن ضمن هذا الرفض لشبنغلر، دخل ريمون أرون في جدلٍ مع تازروت، بوصفه ممثِّلاً للثقافة الجرمانية. ولعلّ هذا كان وراء الصمت الذي أُحيط به الرجل، فقد اتُّهم أيضاً بالتعاطف مع النازية، لأنّه ألّف ثلاثة كتب عن التربية الألمانية، كانت صدرت في أثناء الحرب لدى الناشر سورلو Sorlot الذي أُدين بالتعاطف مع النازية. وفي الأثناء أدانوا محمّد تازروت، لولا جمعه لتواقيع من زملائه الأساتذة تؤكّد ألّا غبار على مسلكه الوطني.

جدير بالذّكر أنّ الترجمة الفرنسية التي أنجزها تازروت، هي نفسها التي اعتمدها في الستينيّات أحمد الشيباني لدى نقله الكتاب إلى العربية، وصدر في حينه عن “دار الحياة” بعنوان: “تدهور الحضارة الغربية”، وهي ترجمة شديدة الغموض، تكاد لا تُقرأ من شدّة انغلاقها، إذ جاء النصّ العربي خالياً من أيّ ثبْت للمصطلحات التي اعتمدها شبنغلر، ما جَعل القارئ عرضة للتوهّم والتأويل والشطح. كما فتحت كلمة انهيار الغرب الباب واسعاً على سيلٍ من الكتابات العربية التي غرقت في الحديث عن انهيار الغرب و انحلاله الأخلاقي والاجتماعي، وكلّها مقالات فانتازية لا علاقة لها بنظرية شبنغلر البيولوجية الموضوعية التي تنسحب على كلّ الحضارات.

وفي سنة 1932 يُصدر تازروت ترجمة لكتاب ليوبولد فون فايس: “علم اجتماع العلاقات”، كما نقل إلى الفرنسية كتاب كارل بروكلمان “تاريخ الشعوب والدّول الإسلامية” وصدر سنة 1949 عن دار بايو Payot الفرنسية.

اقتحام اللّحظة الفلسفيّة

المفارقة أنّ خيار الاندماج الفرنسي مَنَح مفكّرنا وعياً، وإن كان مزيّفاً، بأنّه غير واقع تحت الاستعمار ؛ وهذا الوعي جنّبه الدخول إلى مدينة الغرب كمثقّف مُستعمَر، واقع تحت حالة انبهار نفساني بالغرب وحسّ عميق بالدونية، وبالتالي بالتبعية. مثقّف مصاب بعُصاب حداثي يشلّ قواه الإبداعية. كما لم يسجن نفسه في مقولة الأصالة والمعاصرة، أو في القراءات السكولّائية و العروض المدرسية للفلسفة المعاصرة، كما هو السائد في الأكاديميا العربية اليوم؛ وإنّما دخل مدينة الغرب الروحية كفاعلٍ ومشارك، له أصالته الفلسفية وإضافاته الشخصية.. اقتحم تازروت بكلّيته اللحظة الفلسفية في الغرب، وقام بمُغامرة فلسفية أصيلة كان خلالها هو هو. وكان في مقتربه هذا من الفكر الغربي أشبه بأسلافه فلاسفة الإسلام القدامى في قراءاتهم الدينامية لفلسفة اليونان والفرس والهند.

في أعماله يُطوِّر تازروت نظرة للتاريخ، لا بوصفه تسلسلاً متطوّراً للأحداث المترابطة بعضها ببعض، و إنّما كتجاور حضارات يختلف بعضها عن بعض، ومن الممكن بلْورة حوار في ما بينها، وهي نظرة تلتقي مع الدعاوى الجدّية للحوار بين الأنداد في السياسة والأديان وغيرها اليوم. ومن أعماله بعد: “بعض الشروط المجهولة من أجل تقارب فرنسي ألماني” (1931) ، “دولة الغد.. الإمكانية النظرية والعملية لإرساء ديمقراطية برلمانية في فرنسا” (1936).

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، أصدر تازروت ثلاثة كتب عن التربية في ألمانيا هي: “التربية المثالية” (1943)، “نقد التربية الألمانية من كانط إلى هتلر”(1946)، و”المربّون الاجتماعيون في ألمانيا الحديثة: التربية الحيويّة” (1948)، وله كُتب أخرى مهمّة منها: “محاولة في أصل العرق”، و”الشعوب والقوميّات والديمقراطية” (1959).

وعلى الرّغم من كلّ هذه الإنجازات وغيرها، فقد عاش محمّد تازروت بعيداً عن الأضواء في فرنسا، إذ لم يكن يُسمح بذكر اسمه كاملاً، حتّى على كتبه، وكثيراً ما كان يُكتب هكذا: م. تازروت. ولعلّ هذا الإهمال كان نتيجة العزوف بعد الحرب العالمية الثانية عن عالَم الثقافة الألمانية التي كانت قد بدأت شيطنتها. وظلّ اسمه مغموراً ومجهولاً في الجزائر؛ فهل ثمّة مَن سيتصدّى لجَمْع أعماله الكاملة و إصدارها في طبعة نقدية شاملة؟.. علماً أنّ أعماله قد تكشف أنّ كثيراً من القضايا العالقة اليوم تمّت معالجتها، ووُضِعت لها حلولٌ، كقضية الأقلّيات الإثنية على سبيل المثال، والتي هي ليست قوميات، والتي كثيراً ما يستعملها الغرب الإمبريالي لتفجير بلداننا، في حين لا تسمح فرنسا لأقليّاتها، من البروطون والباسك والكورسيكيّين، بالتحوّل إلى قوميّات تُفجّر الوحدة القومية الفرنسية، وتعمل، في المقابل، على تفجير بلداننا، من المغرب العربي إلى المشرق العربي، وتجد لدينا أشباه مثقّفين يهدمون بلدانهم وهُم يعتقدون أنّهم يبنونها.

*شاعر وكاتب من تونس

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى