ياسر عرفات أيقونة… ومحمود عباس أيقونة مضادة
الحديث عن ياسر عرفات ومحمود عباس يطول، وفي الوقت نفسه فإنه مليء بكثير من ألغام «المحرمات» بعدما حول بعضهم الأول إلى مقدس يحظر الحديث عنه، إلّا ضمن دائرة المديح المنفرد العقال كما تبيّن ذلك مجدداً في ذكرى رحيله الخامسة عشرة. ولأن الإعلام العربي الرسمي تضليلي وملتزم بسياسات مموّليه ورعاته، فمن غير الصحيح توقّع تغطية مختلفة عن محمود عباس.
ياسر عرفات ارتقى إلى منزلة الرمز بفعل معظم أدوات الإعلام والتضليل العربية والعالمية، لكنه حظي بتعاطف جماهيري واسع لأنّ كثيراً من العرب المتابعين للأخبار قارنوا بين أسلوب حياته والبذخ الذي يعيشه معظم حكام العرب، فتبيّن لهم أنه عليهم احترام أبو عمار وأنه آثر الحبس في مقره في رام الله على الاستسلام لكامل شروط العدو الصهيوني الاستعماري-الاستيطاني.
للتذكير، لقد كان الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي قاد الانقلاب غير الشرعي على الراحل الكبير أحمد الشقيري عقاباً له على مواقفه الوطنية الفلسطينية، خصوصاً تجاه قرارات مؤتمر الخرطوم، وهو من كان وراء استبدال ياسر عرفات به، وقد فصّلت ذلك في مقال سابق لي. لذلك فمن الطبيعي أن وسائل الدعاية والإعلام والتضليل المصرية هي التي قادت تكريس أبو عمار إعلامياً قائداً بعد معركة الكرامة، لكن الراحل تمتّع بمزايا وخصال وأوصاف أفسحت المجال لأن يستحيل رمزاً، رغم أنّ كثراً ممن مجايليه ومنهم الراحل الكبير أنيس الصايغ ألحقوا باسمه نعوتاً، بعضها صحيح وبعضها الآخر مبالغ به.
على أيّ حال، تحوّل أبو عمار إلى رمز بل حتى صار اسمه مرتبطاً على نحو وثيق بنمط من عبادة الفرد كان هو يرغب به. وبما أنه من غير الممكن وضع صورة واقعية عن ياسر عرفات ومحمود عباس، فقد رأيت أنه من الصحيح عرض كتاب «ياسر عرفات ومحمود عباس: بورتريه قيادة في دولة مؤجلة» (hurst & company, london 2019)، خصوصاً أن مؤلفه ميناشيم كلاين حاول نقل صورة واعية للشخصيتين، ونجح إلى حدّ ما، ومن المفيد للقراء العرب الاطّلاع على هذا الرأي مع ضرورة الحذر من قبول كلّ ما يرد فيه من آراء.
نبدأ بياسر عرفات الذي قال الكاتب، وهو أستاذ محاضر في «جامعة بار إيلان» في كيان العدو الصهيوني الاستعماري-الاستيطاني، عنه: «في مرحلة مبكرة من حياته العامة أصبح ياسر عرفات أيقونة وكان ذلك سبب نجاته سياسياً رغم قيود شخصيته. لقد بدأت «الأيقونة» مع معركة الكرامة في آذار 1968 التي تكبّدت فيها القوات الإسرائيلية خسائر فادحة في الاشتباك الرئيس الأول، حيث تمّت مقابلة عرفات وتصويره في الصحافة العربية (وفي وسائل الإعلام المصرية قبل غيرها – ز م) ما زوّد وسائل الإعلام بشخصية عامة يمكن للمواطنين التماهي معها». في أول ظهور علني له، جسّد عرفات النضال الفلسطيني (الناجح) المسلّح الذي بنت حوله «فتح» الأساطير. لم يكن بالضرورة أكثر النشطاء الفلسطينيين موهبة في نهاية الستينيات ولم يكن القائد الطبيعي. زملاؤه جميعاً كانوا يعرفون أوجه القصور التي لم يحاول هو إخفاءها. كان ياسر عرفات ميالاً للاستعراضات التي نجحت في جذب الانتباه مع أنه كان يخاطب الجمهور ومتحدثيه باللهجة المصرية التي لم يتمكّن من التخلي عنها، لكن مع ذلك لا يمكن لأيّ كان أن يتحدّى صورته كرمز وطني. فقد بنيّت صورته كمقاتل ومحارب، ذلك أنه كان يرتدي البدلة العسكرية والمسدس دائماً في متناول اليد. لذلك نظر الجمهور الفلسطيني إليه على أنه شخص ضحى بحياته من أجل الثورة وقاتل على الخطوط الأمامية.
أما أسلوب قيادته، فكان «فرّق تسد» للحفاظ على سلطته داخل «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية. ترأس نظام المحسوبية والتحكم في الوظائف والدخل والتحكيم، إضافة إلى التأخير في صنع القرار والتردّد وتفضيل الارتجال والاستفادة من الفرص التكتيكية بدلاً من الاعتماد على التخطيط الاستراتيجي، ما خلق عملية غير منظّمة لصنع القرار في موقف محدّد وعدم وجود مؤسّسات حكومية لموازنة سلطة الرئيس. كما عُرف عنه أنه كان يقدّم إجابات «لعم (لا ونعم)» للقادة الدوليين الذين كان يلتقيهم.
الخصائص نفسها التي جعلت عرفات رمزاً وطنياً في نظر الفلسطينيين، جعلته شيطاناً في منظور غالبية الإسرائيليين.
لكن الكاتب يذكّر القراء بأن شيطنة الصهاينة عرفات تعني في الوقت نفسه أن إسرائيل طاهرة! أما محمود عباس، فيصفه الكاتب بأنه «زعيم سيزيفان» المضاد للأيقونة الذي لم يتمكّن من فصل نفسه عن سلفه، ويفتقر إلى أوراق اعتماد قيادية. ذلك أنه يسير في الطريق الذي مهده عرفات. صحيح أنه قام بتحسين طريقة عرفات في العمل السياسي، لكنه على عكس سلفه ليس رائداً ولا قائداً خلق فرصاً جديدة. عباس زعيم سيزيف؛ مقدّر له أن يقوم بمهمة بينما مؤهلاته والظروف الدولية والمحلية تجعل هذه المهمّة مستحيلة التحقق حيث تم القبض على الحركة في فخ أوسلو. مهمتها غير مكتملة ومعلقة. لقد فشل في تحرير الشعب أو حتى جلب الحكم الرشيد أو تسريع السلام. وحتى ما اعتُبر في عهد عرفات نقاشاً سياسياً نابضاً بالحيوية، حوّله محمود عباس «إلى خطاب ممل وكئيب».
صحيفة الأخبار اللبنانية