يوسف القعيد: الثقافة لا تشكل أولوية حقيقية للدولة المصرية (حاوره: سلوى عبدالحليم)
حاوره: سلوى عبدالحليم
لا يعتقد الروائي المصري يوسف القعيد (1944) بوجود ما يسمى بالواقعية الاشتراكية أو الثورية… «الواقعية التي أعرفها، وأؤمن بها، أن يعبر الكاتب عما يدور حوله في شكل فني مضيفاً إليه خياله الإنساني». ويرى صاحب «قسمة الغرماء» أن ما يجري في مصر الآن ينبغي التعامل معه «من خلال نوع من الخصوصية المصرية».
لا يعترف القعيد الذي تولى أخيراً رئاسة لجنة القصة في المجلس الأعلى المصري للثقافة بورش الكتابة، فالأدب «لا يُعلم»، وفق تعبيره. ويرفض تماماً مطالب بعض المثقفين بإلغاء وزارة الثقافة… «مجهول» هو العنوان الذي أطلقه القعيد على روايته الصادرة أخيراً عن «دار الهلال» في القاهرة والتي استغرق في كتابتها عشر سنوات. هنا حوار معه:
> عالم مجهول الملامح. هكذا بدت القرية في روايتك الجديدة، فهل يمكن الآن قبول الطرح الكلاسيكي الذي يصور القرية المصرية على أنها ما زالت غارقة في الموروث القديم، والأساطير، والخرافات؟
– لا تناقض على الإطلاق بين القرية المصرية النائمة في تخلفها وبين وجود منجزات القرن الحادي والعشرين فيها. عندما أزور قريتي أندهش إلى حد الذهول من الفلاح الجديد الذي يركب «التوك توك» من بيته إلى الحقل وفي يده هاتف نقال، ولو كان ميسور الحال لأحضر تلفزيوناً ووضعه على مدار الساقية، ليتابع القنوات الفضائية بمسلسلاتها وبرامجها الحوارية. هذه «العصرنة» الشكلية لم تغير أي شيء في سلوك هذا الفلاح الذي لا ينفر من كونه أمياً. ملمح القرية الكلاسيكية لا يعني أنني آخذ القرية وأعود إلى العصور الوسطى، لكنني أحاول تجسيد المفارقة الرهيبة في ريف مصر الآن.
> عنوان الرواية، لماذا اخترت أن يأتي نكرة؟
– يعذبني كثيراً عنوان الرواية، أحمله في داخلي منذ أن تنبثق الرواية في عقلي كفكرة وتتجسد لخيالي كحدث، ويبدأ أبطالها أو الذين ليسوا أبطالاً من شخوصها في الظهور في حياتي كما لو كنت أعاشرهم. طوال هذه المراحل أحمل بداخلي عنوان العمل. كان عنوان هذه الرواية الأول «نداء المجهول». لكنني اكتشفت أن ثمة رواية قديمة قرأتها في شبابي الباكر الأول لمحمود تيمور، على رغم لغته القاموسية المحنطة، وكان عنوانها «نداء المجهول». فأصبح عنوان روايتى «غواية المجهول»، ثم استبعدت مفردة «غواية» ليصبح العنوان من كلمة واحدة، سألت نفسي: كيف نُعرِّف المجهول؟ قيمة المجهول الأساسية هي ألا يُعرف. وهكذا حذفت الألف واللام حتى يستقيم المعنى مع المبنى.
> قسمت الرواية إلى ستة مقاطع كبيرة، يحمل كل منها عنواناً، وداخل كل مقطع مقاطع أصغر، يحمل كل منها عنواناً مستقلاً، ألم تخشَ تشتت القارئ؟
– قلتُ من قبل إن الرواية العربية أسسها محمد حسين هيكل برواية «زينب» التي صدرت عام 1914 أي منذ قرن من الزمان، وقلتُ إن نجيب محفوظ وكثراً من جيله هم الذين أصّلوا لفن الرواية ونقلوها نقلة غير عادية، وقلتُ – وكان هذا في أواخر ستينات القرن الماضي – إنه لم يبق لنا نحن جيل الستينات سوى مغامرة التجريب. هذا جانب في رواياتي لم يتنبه إليه أي ناقد، إن افترضنا وجود نقاد أصلاً. هندسة النص ربما تشتت القارئ، لكن الكتابة بالنسبة لي هي متعة. لا أشعر بسعادة في هذا العالم إلا عندما أجلس لأكتب. وكل ما عدا لحظات الكتابة هو باطل. محاولة التجريب تمثل ذروة سعادتي في أوقات الكتابة.
> الراوي في «مجهول» يطرح الكثير من الأسئلة، ويسعى إلى تفسير بعض المواقف الملغزة، لكنه يركن في هذا إلى الغيبيات. هل هو الاستسهال، أم رغبة خفية في تعطيل العقل وعدم إعمال المنطق؟
– لا يعجبني تعبير الاستسهال، ولا تعبير المواقف الملغزة. لأن رواية «مجهول» ليست رواية ألغاز. هذه حكاية قرية مصرية في مواجهة الأسئلة الكبرى. بعد أن أفلس الواقع وفشل كل ما تراه العين على الأرض من محاولات الإجابة لا يكون أمام الإنسان سوى السماء. لا أريد الاستطراد لأنني لا أريد التورط في تفسير النص. ما أود أن أقوله باختصار هو أن الأحداث قادتني ومعها الشخصيات إلى المسار الذي انتهت إليه هذه الرواية.
> اختفاء حسن أبو علي، أحد أبطال الرواية، وهذه السلسلة من التكنهات حول مكان وجوده، هل تشي بأننا بصدد مستقبل مجهول، بالنسبة إلى القرية؟
– الروائي أحمد ماضي عندما قرأ هذه الرواية قال لي إن عنوانها الأدق هو: اختفاء. لأن الاختفاء الذي لا شيء بعده سوى الاختفاء يكاد يكون موضوع هذه الرواية الأساسي. أنا لا أرمز إلى شيء معين، لكنني أتحسس مصير حسن أبو علي، ولا يعنيني أين كان مختبئاً ولا كونه يظهر أو لا يظهر في هذه الرواية. فأنا أكتب نصاً روائياً وليس سيناريو مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي. الاختفاء بهذه الطريقة ربما كان مقصوداً بحد ذاته. لكن كوني لا أرمز لا يعني أنني أصادر حق القارئ في أن يقرأ القراءة التي تعجبه. والتي يستريح لها وأن يستخرج منها ما يشاء من الرؤى والأفكار. فالنص المفتوح على الاحتمالات كافة، والنص الذي يمكن أن يقرأه كل قارئ في شكل مختلف عن الآخر، أحد أحلامي أن أكتبه في يوم من الأيام.
> هل ما جرى في مصر منذ 25 كانون الثاني (يناير) 2011 وحتى الآن قفز على كل خيال إبداعي؟
– على رغم أننا كنا نحلم بما جرى في 25 يناير ونتمناه، وعلى رغم أن أعمالنا الأدبية كانت تبشر به عبر رفضها ما كان موجوداً، إلا أن حجم المفاجأة فاق أي خيال، سواء بالنسبة إلى الحالمين بالثورة من كتّاب ومبدعين، أو بالنسبة إلى الذين كانوا يحكمون مصر. ما تم حتى الآن وبعد مرور ثلاث سنوات على قيام ثورة 25 يناير أقل بكثير مما كنا نحلم به، لكننا الآن في وضع أفضل. فالنظام القديم «نظام مبارك» لم يعد موجوداً، و «الإخوان» أيضاً لم يعودوا موجودين، فلو أننا استطعنا بناء وطن جديد لا وجود فيه لهذه الأطراف فهذا أمر جيد.
> التصريحات المؤيدة للقوات المسلحة التي أطلقتها أخيراً ومعك مثقفون بارزون من جيلك مثل صنع الله إبراهيم، جمال الغيطاني، سيد حجاب، هل هي تعبير عن عشق للنموذج الناصري؟
– هناك مساحة خلاف مع وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي، وهناك رُعب من «الإخوان»، والوطن الذي يجد نفسه أمام خيارين، هو وطن يعيش كارثة، والكارثة الأخطر هي عندما يستقيظ هذا الوطن ليجد نفسه في حالة بحث عن زعامة يوليها أمره. ما قام به السيسي هو عمل بطولي، لكن التعامل مع الأمور يجب أن يتم من خلال نوع من الخصوصية المصرية، والخروج من منظور ثنائية فاشية دينية، أم فاشية عسكرية. شخصياً ليست لدي أية موانع أن يصبح السيسي رئيساً لمصر، لكنني أفضل أن يستمر في منصبه الحالي، مع أنني لا أجد شخصاً مدنياً يصلح لتولي رئاسة مصر.
> وماذا عن الواقع الشعبي؟
– الحديث عن الواقع الشعبي يقودنا إلى الحديث عن الخيال الشعبي، والذي أحياناً يضر بالشعوب، الناس ترى في شخص الفريق السيسي المخلص، وتربط بينه وبين شخصيات مثل جمال عبدالناصر، صلاح الدين الأيوبي. القضية ليست قضية عشق للنموذج الناصري أو قضية مقارنة بين جمال عبدالناصر والفريق السيسي بمقدار ما هي التخلص من رأس الأفعى، لكن الأفعى نفسها ما زالت موجودة وهذا بدوره يجعلك في حالة بحث دائم عن البديل وفي رؤية تعتقد أن العثور على هذا البديل هو الحل الوحيد.
> لماذا ركزت على المشكلة الطائفية في غير عمل روائي، وكيف ترى الحضور المسيحي في الأدب المصري؟
– ولدت في قرية، على رأسها كانت توجد كنيسة. كان هذا وضعاً نادراً في القرى المصرية. وفي القرية المجاورة لقريتنا كانت توجد حارة تسمى حارة النصارى يعيش داخلها مجموعة من المسيحيين في ما يشبه الغيتو. المسيحيون جزء من نسيج هذا الوطن، وفترة الستينات كانت الجنة المفقودة لمسيحيي مصر، هم حاضرون في الأدب، حاضرون في المتن وليس الهامش، هناك كتاب صدر أوائل 1908 اسمه «الأدب القبطي في مصر» لمحمد سيف كيلاني يرصد مشاكل الأقباط بمقدار هائل من الشجاعة والوضوح. المؤسف أن هذا التناول لا يجرؤ أحد على تقديمه الآن.
> كيف تتعاطى مع مصطلحات مثل الواقعية الاشتراكية، والواقعية الثورية؟
– لا أعتقد بوجودهما، الواقعية هي الواقعية، وفقط، والواقعية التي أعرفها، وأؤمن بها أن يعبر الكاتب عما يدور حوله في شكل فني مضيفاً إليه خياله الإنساني.
> تعيش في القاهرة منذ سنوات طويلة، وعلى رغم هذا تظل القرية الهاجس والأيقونة الرئيسة في كتاباتك؟
– حنيني للكتابة عن القرية يفوق حنيني للكتابة عن المدينة، على رغم تناولي الثانية في أعمالي. عندما أكتب عن القرية أشعر بأني أمتلك مادة الكتابة، أما الكتابة عن المدينة فتشعرني بأني تائه. فزعت عندما قرأت مقولة لجورج لوكاتش يصف فيها الرواية بأنها فن مديني وأنها ظهرت بظهور المدنية وازدهرت بازدهار المدنية أيضاً، ربما لأن تركيبة العلاقات والصراع الذي نجده في المدينة نجده في الرواية.
> في «لبن العصفور» كانت خصوصية العامية المصرية أهم ما يميز العمل، هل تعتبرها محاولة للتجريب؟
– هذه الرواية أعتبرها نزوة، عبرت من خلالها عن رغبة داخلية، منذ أن بدأت الكتابة وحتى الآن، في كتابة رواية بالعامية المصرية. توقفت في قراءاتي أمام ثلاث محاولات لكتابة رواية بالعامية المصرية، كتاب لويس عوض الشهير «مذكرات طالب بعثة»، ورواية مصطفى مشرفة «قنطرة الذي كفر»، ورواية «السيد ومراته في باريس» لبيرم التونسي، إعجابي بهذه الروايات الثلاث فضلاً عن إعجابي الشديد بالعامية المصرية دفعني لكتابة «لبن العصفور». أتصور أن من حق الكاتب بعد أن يُرسي دعائم عالمه أن يجرب. الأمر الأهم هو أن أبطال أعمالي معظمهم من البسطاء والأميين، بالتالي من الصعب جعلهم ينطقون بالفصحى لأنه أمر ضد الصدق الفني.
> توليت أخيراً منصب مقرر لجنة القصة في المجلس الأعلى المصري للثقافة، ما أولويات عمل هذه اللجنة؟
– هناك فنون جديدة أتمنى أن نهتم بها، مثل القصة القصيرة جداً، أو قصة السطر الواحد التي كتبها ماركيز والتي تمنى نجيب محفوظ عقب حادث الاعتداء عليه عام 1995 لو أنه استطاع الكتابة مرة أخرى حتى يكتبها، إضافة إلى كتابة النص، فالكتابة الأدبية في القرن الواحد والعشرين ستتحول إلى كتابة النص الذي يتضمن الأجناس الأدبية كافة. الكتابة الأدبية في تجدد دائم، والمؤسف هو أننا ننتظر حتى يظهر هذا التجديد في أوروبا ويحقق نجاحاً ثم يأتينا، وهذا أمر يستغرق سنوات طويلة.
> كيف تنظر إلى تأثير همنغواي، كافكا، جميس جويس ومارسيل بروست، في كتّاب جيل الستينات؟
– أظن أنه من الشجاعة الاعتراف بأنه لولا هؤلاء الكتاب العظام لم يكن نصف جيلنا على الأقل ليكتب. صحيفة «أخبار الأدب» القاهرية أصدرت أخيراً ملفاً عن ألبير كامو كان ينقصه تناول الأثر الذي تركه فينا. «الغريب»، و «الطاعون»، و «المتمرد»، و «أسطورة سيزيف»، هذه الأعمال تركت أثراً واضحاً في جيلي والأجيال اللاحقة ومن دونها لم تكن طرقنا نحو الكتابة بهذه السهولة.
> كيف تتعاطى مع فكرة المحاكاة في الأدب، خصوصاً أنك كنت قريباً من نجيب محفوظ؟
– لم أحاكِ نجيب محفوظ إطلاقاً، فأنا مختلف معه تماماً في الكثير من مواقفه، خصوصاً موقفه من ثورة يوليو، ومن جمال عبدالناصر، محفوظ كان ليبرالياً إلى درجة الهوس، وأنا اشتراكي إلى درجة الهوس أيضاً. محفوظ كان يؤمن أن الحرية تأتي قبل الطعام، وأنا أؤمن أن الطعام قبل الحرية. تعاملتُ معهم عن قُرب مع إحسان عبدالقدوس، يوسف السباعي، يوسف إدريس، وصلاح عبدالصبور الذي أعتبره حالة منفردة، وقصته مع الكتابة شديدة الأهمية. لكن نجيب محفوظ بتركيبته المختلفة وانتظامه في الجلوس على المقاهي، كان الوحيد تقريباً الذي كنا نراه أسبوعياً، فيما كان الآخرون متخندقين وراء وظائفهم ومناصبهم المهمة التي كانت تقيم مسافات بيننا وبينهم.
> كيف تستشرف شكل الكتابة؟
– جيل الستينات آخر من اهتم بالهم الاجتماعي والهم السياسي ومصير الوطن. هذه أشياء تدخل المتحف الآن. الكتابة المقبلة هي كتابة النص الذي يتضمن الأشكال الأدبية على اختلافها بعيداً من سجن القصة أو الرواية. أيضاً هناك كتابة الورش وإن كنت لا أعتقد بها، فأنا أؤمن بأن الأدب لا يُعلم، بل لا بد من وجود الموهبة وأن يكون لديك ما تقوله، وكيف تقوله، إضافة إلى كتابة الإنترنت التي أسميها «كتابة الناس». كتابة الناس هذه وبفضل الطفرة التي تشهدها وسائل الاتصال تتطور مع مرور الوقت، وربما تدفع الناس مستقبلاً للاستغناء عن الأدباء. يجب الانتباه إلى هذا النوع من الكتابة، وألا تكون نظرتنا إليها نظرة ضيقة، باعتبار أن الذين يكتبونها لا يتمتعون بموهبة وغير دراسين الأدب، فهي في نهاية الأمر كتابة.
> متى تصبح الثقافة أولوية؟ وكيف ترى أداء وزارة الثقافة الآن؟
– فكرة الثقافة لا تشكل أولوية حقيقية للدولة المصرية، والمجتمع المصري عموماً لا يضع الثقافة ضمن أولوياته. الحديث عن أداء الوزارة يعني حديثاً عن إمكانات مالية غير متوافرة. فعلى سبيل المثل: متحف نجيب محفوظ، هذا المشروع مطروح منذ سنوات عدة ولم تتخذ فيه أي خطوة عملية حتى الآن. العمل الذي يتم الآن في وزارة الثقافة المصرية حتى وإن كان في الحد الأدنى، فإنني أرى ضرورة أن يستمر، بالتالي أرفض فكرة إلغاء وزارة الثقافة لأن الفراغ الناتج من إلغائها سيملأه «الإخوان المسلمون». حديث التطوير أجدى من حديث الإلغاء. وينطبق هذا على وزارة الإعلام أيضاً التي يتحدثون عن الاستعاضة عنها بما يسمى مجلس الإعلام الوطني، فهذا يعني أننا نستبدل سلطة بأخرى، وكل ما في الأمر هو مجرد تغيير في المسميات.