يوما اللّغة العربية: العربي والعالمي
لا أعلم متى ابتدأت عادة اعتماد أيّام للّغات، ومَن هي الدولة لتي ابتدأت ذلك التقليد. إلّا أنّ من المرجح أنّها كانت فرنسا، وقد جَعَلَت من تاريخ ولادة منظّمة الفرانكوفونية يوماً للّغة الفرنسية. وتتالت أيام اللّغات الأخرى. فصار للإنكليزية يومها ومثلها للإسبانية. واستحدث الاتّحاد الأوروبي يوماً للّغات الأوروبية. ولكلّ ما سبق من معلومات، ثمّة مؤرّخون متخصّصون هُم أعلم مني بمفاصل الأمور. أمّا أنا، فقد استرعى اهتمامي، منذ العقدَين الأخيرَين من القرن الماضي، يوم الفرانكوفونية. تفنَّن القائمون على شوؤن الفرانكوفونية في حفاوتهم بيومها. وما تزال حيّة في ذاكرتي أنّني شهدت في دمشق حفلات استقبال بمناسبة ذلك اليوم تحدّث فيها سفراء عدّة من دُول منظّمة الفرانكوفونية.
ليست العربية اختصاصي الأكاديمي، ونادراً ما أُعالج مسائلها ومسائل اللّغات الأخرى إلّا في إشارات عابرة إلى التنافس اللّغوي العالمي. كان هذا قبل يوم 15 آذار (مارس) 2006. في ذلك اليوم ألقيتُ محاضرة عن التنافس اللّغوي العالمي في مؤتمرٍ كبير عقدته جامعة حلب. خاتمة المحاضرة أتَت من حديث مساء اليوم السابق مع موظّفة الاستقبال في الفندق الذي تحجز فيه جامعة حلب لمَن تستضيفهم من زوّارها الأكاديميّين، وهو فندق “بولمان الشهباء”. كان بهو الفندق غارقاً في الزينة. سألتُها: عرس مَن؟ قالت: عرس الفرانكوفونية. ختمت قولتُها المحاضرةَ التي كانت تنتظر خاتمة. هتفتُ لنفسي: أريد عرساً للغتي! جاءت الخاتمة وليدة ذلك الموقف، ومنذ ذلك الوقت أصبح اعتماد يومٍ للعربية شغلي الشاغل.
وأخذتُ أستعرض الأيّام التي تصلح لتكون موعداً للعرس. يوم تأسيس جامعة الدّول العربية، ويوم الفرانكوفونية يوم تأسيس منظّمتها. ولكنّ الجامعة ضعيفة مُستضعفة، والفرانكوفونية “جهادية” جامحة. يوم قيام الوحدة السورية المصرية؟ ولكنّها لم تستمرّ. يوم قيام أوّل جمعية للنهوض بالعربية في العهد العثماني؟ ربّما. إلّا أنّ الأمر يقتضي استقصاءً لن أقوم به. في الذهن ما هو راسخ: للقرآن الكريم فضل على العربية. لماذا لا يكون يومها يوم كانت أو نزلت من السماء:”اقرأ”. ثمّ لماذا لا أُخاطِب بالأمر قادةَ الدّول العربية ومؤتمر قمّتهم السنوي على الأبواب، وموعده المُقرَّر في الأسبوع الأخير من الشهر الثالث؟ راق لي إطلاق الدعوة في ختام بحثي أمام جمهور حاشد في مؤتمر لغوي دولي. وكان التقبّل ممتازاً. تنافَست عليّ وسائل الإعلام العربية والدولية. حسبتُ أنّ الأمر أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقّق. لم يحصل.
ثمّ شاءت الحماسة للفرانكوفونية أن تشدّ من أزري. ما إن انقضت أيّام على دعوتي حتّى كان الرئيس شيراك محور اهتمام العالم في وقفة له لغوية. غادر الرئيس الفرنسي غاضباً جلسةً عامّة لرؤساء الاتّحاد الاوروبي ومساعديهم حين ألقى موظّف فرنسي في الاتّحاد بيانه أمام الاجتماع باللّغة الإنكليزية. لم يقبل عنفوان حماسة شيراك للغته أن يخونها فرنسي. بعثتُ بإخبار “الشجاعة الشيراكية” إلى السيّد عمرو موسى وناشدته الأخذ باقتراحي. لم يجب. لكن في أوراقي ما يدلّ على أنّه في خِتام قمّة ذلك العام أشار إلى أنّ القمّة المقبلة سوف تُعالِج موضوع اللّغة العربية. وصَدَق.
هل مات الاقتراح بعد “مجد اللّحظة”؟
يتضمّن اقتراح : “اقرأ” دعوة تضامن للعرب والمسلمين جميعاً. لم يغب عن المستمعين إليّ في حلب، ذلك اليوم من آذار (مارس)، ما تعنيه تلك الدعوة في ميدان السياسة. وكانت استجابتهم واضحة بالتصفيق الحادّ. سُعدتُ بمجد اللحظة، وأضاف إلى سعادتي انشغال وسائل الإعلام بما قُلت. كما أسعدني سؤال الناس المستمرّ لي: “ماذا جرى لاقتراحكَ؟”؛ كان الاحتضان غير الحكومي للفكرة قويّاً، ثمّ ما لبث أن اقترن باحتضانٍ حكومي.
في عام 2008، قامت لجنة التمكين للّغة العربية في سورية، وهي لجنة حكومية، بإيصال الاقتراح إلى “المنظّمة العربية للثقافة والتربية والعلوم (ألكسو)” في تونس. وكانت بعد ذلك اجتماعات وتوصيات.
ثمّ كان قرار من المدير العام لألكسو: فليكن يوم الأوّل من آذار (مارس) من كلّ عام، بدءاً من 2010، يوماً للّغة العربية. لماذا يوم الأوّل من آذار؟ لأنّه يَقع ضمن موسم التدريس. سُررتُ باستجابة “ألكسو” لاقتراحي باعتماد يوم، ولم أُسّر كثيراً باليوم المُقترَح. إلّا أنّني رأيته مقبولاً في ضوء ضرورة حثّ الطلّاب على الاهتمام بالعربية في وجه حملاتٍ تهدف إلى إقناعهم بأنّ مستقبلهم مرهون بهجرانها. حَضر الدافع التربوي وهذا حسن. وغاب الدافع السياسي الذي يتضمّنه الاقتراح باعتماد بدء التنزيل يوماً للّغة العربية.
من اليوم العربي للّغة العربية إلى يومها العالمي: مَن ذهب بالفكرة إلى اليونسكو؟
في صيف 2009 وُلد في تونس يوم اللّغة العربية، وابتدأ الاحتفال به في أوّل الشهر الثالث من عام 2010. في عام 2012 تقرَّر يومٌ آخر للّغة العربية، عالميّ هذه المرّة، رأت اليونسكو، بناءً على رغبة عربية لا ريب، أن يكون في 18/ 12 من كلّ عام، وهو ذلك اليوم من عام 1974 الذي به وافقت الأُمم المتّحدة على إضافة اللّغة العربية إلى لغاتها الرسمية..
متى تيقّظت اليونسكو إلى إحداث يومٍ عالميّ لكلّ واحدة من لغات الأُمم المتّحدة الرسمية؟ ما أعرفه هو أنّ اليونسكو أعلنت عام 2008 عاماً للّغات، وأنّها في 21 شباط (فبراير) من ذلك العام، أحدثت يوم اللّغة الأمّ. ثمّ في عام 2012 قرّرت أياماً عالمية للغات الأُمم المتّحدة الرسمية.
لماذا لم تُعن “اليونسكو” باعتماد أيام عالمية للّغات الرسمية إلّا في عام 2012؟ هل أخذت الفكرة من “ألكسو”؟ العكس هو الشائع، أي أن تأخذ “ألكسو” من اليونسكو. ولكن ما المانع أن تأخذ “اليونسكو” عن “ألكسو” فكرة وجدتها جيّدة؟ الشرح مفيد. يهمّنا تأكيد أنّ الفكرة ذهبت من “ألكسو” إلى “اليونسكو”، ويهمّنا أن تقول “اليونسكو” ذلك.
في كلّ حال، لم يَعُد وارداً في أيٍّ من اليومَين، العربي والعالمي، معنى التضامن الذي يجمع العرب والمسلمين، والذي كان من الممكن أن يجسّده اعتماد بدء التنزيل يوماً للّغة العربية.
تشعّب بنا الحديث، فلأختم هذه الجزئية من المقال بكلمات تُحدِّد طريق الحَسم
هل تكون تلك الوقفة ضمن بهو فندقٍ في حلب، أغرقته الزينة، هي البذرة التي أثمرت يومَيْن للّغة العربية، ثمرة وُلدت في تونس وثانية وُلدت في باريس؟ ربما، بل ومن الأرجح. ومن المفيد أن تكون بين أيادينا سرديّتان من “ألكسو” ومن “اليونسكو”. قد تنسجم السرديّتان مع الترجيح، وقد تنقضانه.
ويبقى سؤالان قد يودّ بعض قرّاء هذا المقال وضعهما في جداول اهتماماتهم. يخصّنا الأوّل منهما كمنشغلين بالثقافة العربية ومكانتها العالمية. تجسّد أيّام اللّغات الرسمية الأخرى رموزاً ثقافية أو مناسبات تاريخية تكوّنت من صميم تلك الثقافة، ولم تتكوّن بفعْلٍ خارجيّ عنها. فللّغة الروسية بوشكين، وللإنكليزية شكسبير، وللصينية مُبدعٌ قام قبل آلاف السنين برَسم الكلمات الصينية. أمّا الإسبانية فلها يوم اكتشاف أميركا، وللفرنسية يوم تأسيس منظّمة الفرانكوفونية. أمّا يوم لغتنا العالمي فخالٍ من أيّة دلالة ثقافيّة ذاتيّة. لماذا لا نُجلس المتنبّي على عرش لغتنا كما أُجلِس شكسبير على عرش الإنكليزية وبوشكين على عرش الروسية؟ وليس المتنبّي وحيداً في ساح تمثيل ثقافة اللّغة العربية. ماذا عن المعرّي؟ عن ابن عربي؟ عن ابن خلدون؟ عن ابن رشد؟ عن سيبويه، مقعّد قواعد العربية المنتمي إليها بالثقافة وإن لم ينتمِ إلى العرب بالدمّ؟ ومثله ابن سينا وكتبه أرشدت أوروبا إلى حياة صحّية أفضل؟ النقاش مفتوح أمام المهتمّين العرب. أعترف بأهمّية يوم 18/12، ولكنّني لا أقبل به رمزاً ثقافياً للغتنا العربية. قد تودّ إحدى الوسائل الإعلامية و/أو الثقافية ، بل قد تودّ نشرة “أفق” فَسْح مجال للنقاش في رمزنا الثقافي الذي يحسن بنا تقديمه للعالم. إن فعلت، فإنّني أفضّل ابن خلدون ، وأشرح حين يُفسَح مجالٌ للنقاش.
ويبقى السؤال الثاني العويص والمُحرِج. كرَّمني “المنتدى الثقافي العربي” في بيروت ذات يوم في 2016، بصفتي “صاحب فكرة يوم اللّغة العربية”. هل كان المنتدى دقيقاً في هذا الوصف؟ ربّما. إلّا أنّني أرجو أياً مِن الذين لهم ولعٌ بحقلٍ ثقافيّ صعب ملتبس هو “تاريخ الأفكار وآليات انتقالها”، أرجو منه ومن غيره، أن يُطلعنا إن كان قد وصل علمه أنّ أحداً قبل 15/3/ 2006، كان قد نادى باعتماد يومٍ للّغة العربية. أُسَرُّ إن أتت إجابة بالإيجاب. لا أحبّ أن أصدِّق أنّ كلّ أؤلئك الذين شهدوا حفاوة منظّمة الفرانكوفونية بيومها، من مسؤولي الثقافة العرب في مختلف الدّول العربية، غابت عن أذهانهم فكرة محاكاتها في حفاوتها بلغتها. أمّا إن أتَت الإجابة بالسلب فسيتولّد سؤالٌ آخر.
لماذا حين يحتفي العالم باليوم العالمي للموسيقا يَذكُر اسم جاك لانغ، وينسى العربُ، حين يحتفون بيومَي لغتهم مَن كان الأسبق إلى إطلاق الفكرة، والذي عمل على تثميرها بالوسائل كافّة؟
*رئيس الرابطة السورية للأُمم المتّحدة
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)