يوميات كافكا: الكتابة بديلا عن الحياة

 

تشكل يوميات فرانتس كافكا (1883 – 1924) امتدادا لإبداعاته الروائية والقصصية وإضاءة مهمة عليها، حيث تقع ما بين الأدبي والتاريخي، وتحمل محنة رؤيته للعالم التي ارتكزت على عدة أزمات منها مشكلات النشأة والحب وسؤال الهوية، بدأ كتابتها وهو في عمر السابعة والعشرين من عمره وتتوقف وهو على أبواب الأربعين، فقد شرع منذ أوائل الثلث الثاني من عام 1910 بكتابتها وتوقف في الثاني من يوليو/تموز عام 1923، بعد أن استفحل مرض السل الرئوي الذي أصيب به عام 1917.

وأشار د. خليل الشيخ في تقدمته للترجمة التي صدرت عن مشروع كلمة بأبوظبي إلى انقطاع كافكا عن تدوين يومياته طيلة عام 1918 وندرة كتابته في السنوات 1919، 1920، 1921, 1923 التي لم يزد ما كتبه فيها عن عشر صفحات. وبقيت السنوات 1910، 1911، 1912، 1913، 1914، 1915، 1916، 1917، 1922 هي السنوات ذات الحضور الفاعل التي تشكل فيها منظور كافكا للعالم.

وقال “في تلك السنوات جاءت يوميات كافكا، ونصوصه السردية ورسائله لتبني فضاء مأزوما يقف الإنسان فيه وحيدا ومنعزلا وعاريا في مجابهة قوى خفية مسيطرة، يلاحقه شعور جارف باللاجدوى واهتزاز الكينونة. مثلما تبلور في تلك المدة أسلوب كافكا السردي القائم على التدفق والاسترسال والحوار الداخلي والمزج بين الحلم والواقع، وهو ما أدى إلى إنتاج عوالم رمزية شديدة الغموض، تحيل العالم المادي المشخص إلى كيان هلامي مسكون بالسوداوية والرعب.

تتكون اليوميات في العادة من مجموعة التجارب والخبرات والملاحظات والرؤى التي يعيشها كاتبها ويقوم بتدوينها من غير أن يقصد نشرها. وقد حرص كافكا على الدوام أن تظل يومياته حبيسة أدراجه، لا تكاد تعرف عنها إلا دائرة ضيقة من الأصدقاء والمقربين.

ورأى الشيخ أن اليوميات التي حررها ماكس برود ـ من هذه الزاوية ـ قريبة من أدب الاعترافات، من حيث ارتفاع منسوب البوح، وتتقاطع على مستوى الشكل مع الكتابة التاريخية الحولية تفتقر أحيانا إلى النسيج الزمني الحي الذي يربط اللاحق بالسابق، نظرا لشيوع لون من الزمن الذري فيها يفتت الوعي التاريخي ويسهم في ضمور حركيته، وإن كان هذا الزمن يمنح عالم الأمة المتخيل عبر تواليه وتعاقبه صلابة سوسيولوجية؛ فإن الزمن الكافكاوي، عموما لا يتعاقب إلا ظاهريا، فهو ينبع ـ لا سيما في اليوميات ـ من الداخل، ويتجه صوبه، لذا تراه منشغلا بحركة الذات وعالمها وهواجسها، ويسعى ليحيط بوعيها المضمر في أثناء تنقله بين عالم الشهادة الذي تدركه الحواس ويستوعبه العقل، والآخر الخفي الذي يتم حدسه بوساطة المخيلة.

ولفت الشيخ إلى أن اليوميات تشكل في إطار علاقتها مع نصوص كافكا السردية نصا شارحا يضئ الكثير من أبعاد تلك النصوص، ويفسر غوامضها، ويضئ سياقات ولادتها. فضلا عن كونها تلقي أضواء كاشفة على دواخل عالم كافكا، وتبين الكثير من أزمات ذلك العالم وما شهده من اضطراب وإحساس باللا جدوى، ولكن التدرج الزمني في اليوميات يظل مفيدا لإيضاح ما طرأ على عالم كافكا من تحولات، وإن كانت كل حركة فيه تتولد في إطار ثوابت العالم الكافكاوي المحكوم أبدا بالإحساس بالسلام الداخلي الهش لونا من الاضطراب، وصارت الرغبة في مجابهة العالم لونا من التوحد والاستبطان الذاتي، مثلما غدا هاجس الموت مسيطرا نظرا لتنامي حدة المرض وسقوط كافكا بين الحين والآخر فريسة للتعب والإجهاد.

وأشار إلى أن كافكا كان الطفل الذكر الوحيد بين شقيقات ثلاث، بعد أن مات شقيقان له في سن الطفولة وبقدر ما شكلت هذه الحالة امتيازا له، ألقت بالأعباء على عاتقه، وجعلت علاقته بأبيه هيرمان كافكا الريفي الجذور الفقير المنبت الذي اضطر للعمل بائعا متجولا منذ نعومة أظافره، ملتبسة تجمع بين النفور والإعجاب والكراهية والحب. وتحوي اليوميات من الإشارات والأحداث ما يكفي كي ترسم صورة للأب يبدو فيها غريبا أو كريها أو نائبا أو خشنا، وتدل في مجموعها على مدى الانفصال الوجداني بين الابن وأبيه. ومن الطبيعي ألا يقتصر تجسيد هذه العلاقة الملتبسة على اليوميات وحدها؛ فهو يمتد ليشمل كتابات كافكا السردية الأخرى. ويمكن أن نشير هنا إلى قصته “الحكم”، تلك القصة القصيرة اللافتة التي جاءت “على شكل الولادة” كما صرح كافكا في يومياته، فقد أشار إلى أنه كتب “الحكم” من دون انقطاع، ابتداء من العاشرة ليلة 22 من سبتمبر/أيلول 1912 حتى السادسة من صباح اليوم الثاني. ولعل أهمية هذه القصة المفصلية في تاريخ كافكا الإبداعي يتمثل في حضور هذا الثالوث الذي يظل يشكل هاجسا من هواجس كافكا في يومياته أعني: الأب والخطيبة والصديق.

وأوضح أن كافكا في عام 1919 عبر عن تلك العلاقة من خلال رسالة مطولة صريحة تسمى الأشياء بأسمائها، وتشخص معالم الأزمة بين الطرفين سماها “رسالة إلى الوالد”. ظل كافكا يشكو على امتداد يومياته؛ لأن عائلته قد دمرت جزءا جوهريا فيه كي تجعله يتماشى مع تطلعاتها، ولم تدع له الحرية الكافية كي يقرر شؤونه بذاته، ويجئ حديث كافكا في التاسع من يوليو/تموز عام 1910 عن ذلك باستفاضة وتدقق وشعور عارم بالألم على نحو قريب من التداعي الحر، وتتكرر النغمة الرئيسة كل مرة ينضاف إليها العديد من المرتكزات والنقاط الجديدة. وهذا الحديث يعد من أكثر الأحاديث إيضاحا لدائرة التكرار ذات البناء المتراكب والمحتوي الفسيفسائي، وهو حديث سيكرر كافكا كثيرا من مضمونه وهو يتحدث إلى أبيه في الرسالة التي كشفت عن إحساسه المبكر بالفجيعة وشعوره بالاغتراب والقمع.

لذا كان من المنطقي ـ وفقا للشيخ ـ أن ينهي كافكا حديثه المتدقق بأمنية لم يمل من تكرارها؛ وهي أن يكون أحد قاطني الخرائب، يستمع إلى نعيب الغربان التي تجتازه بظلالها، ويتبرد تحت ضوء القمر، وعندها سيكون قادرا على النهوض، حتى لو بدا في مستهل الأمر ضعيفا؛ فإن تأثير مناقبة الحسنة وقوة العشب البري الكامن فيه ستأخذ بيده وتشد من أزره. وهذه الأمنية هي الوجه الأخر للشعور بالفزع العميق الذي ظل يصاحب كافكا وهو يعيش بين أسرته في براغ، وقد جاء تعبيره عن ذلك الخوف المستمر في الرابع من مايو/آيار عام 1913 “أتخيل دائما أن سكينا عريضة لجزار خنازير تدخل في من الجنب على نحو سريع وانتظام آلى، وتقطعني على شكل شرائح رقيقة جدا، غالبا ما تتطاير كمعجون الحلاقة، جراء سرعة العمل”.

إن تلك الأمنية التي أشرنا إليها ـ والتي لم يتوقف كافكا عن ترديدها ـ توازي لحظة التخيل هذه المتصفة هي الأخرى، بالديمومة الاستمرارية. وهي الأخرى لا تنبثق من الواقع بل من المتوقع والمنتظر. وهما معا ـ الأمنية والمتخيل ـ يشكلان إحدى الكيفيات التي ظلت اليوميات تتفلت عبرها من الزمن العام لتحيا في زمن الكابوس.

وأضاف الشيخ إن هذه الأمنيات والتخيلات ليست وليدة ذات قلقة مغتربة بقدر ما هي نتيجة لمجموعة من العناصر والإشكالات التي عاشها كافكا في مدينته براغ، فقد غابت علاقة التجانس مع الأكثرية التشيكية، وحلّت بدلا منها علاقة صراعية معها، تنتشر في ثناياها أوهام الأقلية بالتفوق والاصطفاء والرغبة في المحافظة على الثروة، ورغبة الأكثرية في تأسيس مجتمع تشيكي حديث على أسس الدولة القومية والمخيال الثقافي الذي يصطدم بالأسس التي قامت عليها القيصرية النمساوية ـ الهنغارية التي كانت في بلاد التشيك جزءا تابعا لها.

لكن اليوميات تشير إلى كثير من القواسم المشتركة بين كافكا والأقلية التي ينتمي إليها؛ بدءا من اسمه العبري أمشيل، مرورا بالأمكنة والشوارع والأزقة الضيقة اليهودية التي كان يتحرك فيها، وما اختزنته ذاكرته من تراث الحاخامات والقديسين اليهود وقصصهم وكراماتهم، وما تنبئ عنه إشاراته الكثيرة من معرفة بالشخصيات اليهودية على امتداد التاريخ، ومذاهب اليهودية وتياراتها الكثيرة، ونصوصها المقدسة، وأعيادها وطقوسها. وتوضح اليوميات مقدار الصلات العميقة التي كانت تربط كافكا بمجموعة من الأصدقاء كان لهم تأثير عميق في حياته من أمثال: ماكس برود وفيليتش وأوسكار باوم وأوتوبك واسحق لوفي، الممثل اليهودي البولندي الصهيوني الميول.

نماذج من اليوميات

 (1914)

الرابع من كانون الثاني:

صنعنا حفرة في الرمال، وشعرنا في أثناء ذلك بالراحة التامة، في الليل تجمعنا داخل الحفرة، وقد غطاها الأب بجذوع الأشجار، فأصبحنا بمنأى عن خطر العواصف والحيوانات البرية. “أبي” كنا نصيح خائفين عندما يظلم المكان تماما تحت جذوع الأشجار من دون أن يلوح الأب، لكننا شاهدنا قدميه من خلال شق، انزلق بعد ذلك إلى جانبنا، وربت قليلا على كل واحد منا، فشعرنا بالهدوء من خلال لمسات يديه، ثم نمنا معا، إن جاز التعبير، فقد كنا إضافة إلى الوالدين خمسة أولاد وثلاث بنات. كانت الحفرة صغيرة قياسا إلى عددنا، لكننا كنا سنستشعر الخوف لو لم نقترب من بعضنا بعضا في الليل.

الخامس من كانون الثاني :

بعد الظهر: كان والد غوته خرفا عندما توفى. وكان غوته يعمل في أثناء مرض أبيه على “إيفيغيني”.

“خذ هذا المخلوق إلى المنزل. إنه ثمل”. قال أحد موظفي البلاط لغوته عن كريستيانه.

أوغست. المدمن على الكحول كأمه “ابن غوته من كريستيانه”، كان يتسكع مع نساء متهتكات مبتذلات.

أوتيلي التي لم تعشقه، فرضها عليه والده لأسباب اجتماعية.

فولف الدبلوماسي والكاتب.

فالتر الموسيقار غير قادر على اجتياز الامتحانات، انزوى عدة شهور في منزل الحديقة. وعندما أرادت تسارين أن تراه: ـ “أخبر تسارين أنني لست حيوانا متوحشا”.

–    “إن صحتي هي إلى الرصاص أقرب منها على الحديد”.

كتابات فولت الأدبية التافهة العديمة الجدوى.

كبار السن في الغرف الكائنة فوق السطوح. أوتيلي ابنة الثمانين، وفولف ابن الخمسين ومعارفهم القدامى.

يلحظ المرء في مثل هذه الاتجاهات المتطرفة، كيف يغدو المرء ضائعا داخل ذاته على نحو غير قابل للإنقاذ، ولا يجد العزاء إلا في تأمل الآخرين ومعرفة القانون الذي يحكمهم ويحكم كل شيء. كيف يمكن توجيه فولت من الخارج، وتحريكه هنا وهناك، وتشجيعه وحثه كي يعمل على نحو منظم، وكيف يظل على المستوى الداخلي متماسكا وثابتا؟

السادس من كانون الثاني :

دلثي “التجربة والشعر” حب الإنسانية، والاحترام الأعظم لكل الأشكال التي ابتدعها. الوقوف الهادئ في الأماكن الأنسب للمراقبة. كتابات مارتن لوثر المبكرة “الظلال القوية المرتبطة بالقتل والدم القادمة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة”. باسكال.

رسالة إلى (أ) والدة زوجته (ل). قبلت المعلم.

الثامن من كانون الثاني :

إنشاد فانتل من “الرأس الذهبي”، “إنه يقذف الأعداء كما تقذف البراميل”.

ما هي القواسم المشتركة بيني وبين اليهود؟ إنه لا يكاد يوجد قواسم مشتركة بيني وبين ذاتي، ويتوجب علي أن أقف في الزاوية سعيدا لأنني أستطيع التنفس.

وصف لمشاعر غامضة (أ) منذ أن وقع ذلك صارت رؤية النساء تؤلمني. إن المسالة ليست إثارة جنسية ولا حزنا خالصا؛ إنها ببساطة تؤلمني تماما كان ذلك قبل أن أكون واثقا من ليسل.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى