يوميات ناقصة | طلقةُ الرحمة (نزيه أبو عفش)
نزيه أبو عفش
«إجعلوا موتَهُ هيّناً!
اقتُلوه!…»
حين يدورُ الحديث عن البطولةْ (حين يدور الحديث عن جريمةِ البطولةْ) لا أحدَ يأتي على ذِكرِ الخائفْ.
*
… بعدئذٍ، وحتى بدون أن يَعصِبوا عينيه، ساقوهُ إلى ما يعرفهْ: ساقوهُ إلى ذبْحِهْ.
حتى بدون أن يعصبوا عينيه.
رأى السكّينَ تُشْحَذ، وأبصرَ عَينَ ذابِحِهْ:
رأى الموت.
دقيقةً ودقيقتين، ساعةً وساعتين، رأى الموت.
ساعةً وساعتين، رأى السكينَ وعَيْنَ صاحبِ السكينْ.
ساعةً وساعتين… رأى الموت وشمَّ رائحةَ الأملْ.
ساعةً وساعتين ماتْ: ماتَ الأبديّةَ كلّها.
ساعةً وساعتين: ماتَ العالم.
……
ما أَرحمَها السكين!
السكينَ التي، بعدَ مرورِ الأبديةْ، أطبقَتْ عينيهِ وجعلَتْ موتَهُ يتوقف!
ما أرحمها… السكينَ التي أعْتَقَتْهُ مِن الأملْ.
*
الإنسان يموت. نقطة وانتهى.
يموت بطلقةْ. بصاعقةْ. بضربةِ سيفٍ حانيةٍ ورشيقةْ. بسَكْتةِ دماغٍ أو لَعْثمةِ قلب. يموتُ بالموت. يموت… فيموت. نقطةْ وانتهى.
لا أحدَ يموتُ يوماً. لا أحدَ يموتُ ساعةً. حتى ولا أحدَ يموتُ نصفَ دقيقةْ.
الإنسان: يكونُ حياً… ويموت.
الإنسان موعودٌبالرحمةْ.
*
أفكّرُ في مَن يخاف. أفكّرُ في من يأمل.
أفكّرُ في من يبصرُ الموت. يتوسّلُ الموت.. ولا يأتي الموت ( الموت الذي أتى.. وينتظر).
: أفكّر في طلقةِ الرحمةْ.
أفكّر في مَن ذُبِح. في من «سيُذبَح».
في مَن قيلَ له: «ستُذبَح»… وتأخّرَ ذبْحُه.
: أفكّر في كميّةِ الموت.
أفكّرُ في بحّارةِ الغوّاصة «كورسك».
لو حصلَ لهم ما حصلَ لقاطِني بُرج، لساكني مدينةٍ مقصوفة، لركّابِ طائرةٍ تتحطّم…، إذنْ لكان الأمرُ أهونَ وأرحم:
بُمْ… ويموتون. بُمْ… ويَحلُّ السلامُ على العالمْ.
لكنْ، في «كورسك»، في رحمِ الموت، في ضيافتِهِ العنيدة، قدّامَ عينِهِ وعيونِه، يوماً… واثنين… وثلاثة… و…
أُفّْ! يا للهول! يا للهولِ المطلَقْ!
يوم. اثنان. ثلاثة. أربعة… في بطنِ مقبرةْ.
: أفكّر في الخوف.
أفكّر في ما لم تُوْصِلْهُ رسالةٌ ولم تحمِلهُ زجاجةُ مستغيث.
أفكر في ما جعلَ الأملَ ضرورياً (ضرورياً… وظالماً).
: أفكّر في الخوف. في الخوف وفي سواه .
لم يكن الخوف وحدهُ ما كانوا يعانون منه.
أنا أروي لكم:
دقيقةْ. ساعةْ. ساعتان.
يومٌ. اثنان. ثلاثة. أبدْ.
أنا أروي.. وأنتم تتخيّلون.
خوفُكم يقول: ويلاه! ما أشدّ ما عانوه!
خوفكم يقول: … وماذا بعدَ الخوف؟
خوفكم يقول: … وما الذي فوقَ الخوف؟
خوفكم يقول: «ماذا؟…» ويَعْجزْ.
نعم! أنا أقولُ لكم: كانوا يعانون من الأملْ..
الأملِ الذي لا يَرحمُ ولا يُنَجّي…
الأملِ الذي هو ربيبُ الهلعِ والفظاعةِ واليأسْ…
الأملِ الذي لا تَبْرَعُ في صناعتِهِ
إلّا مقبرةٌ… أو سكّين.
19/9/2012