«الأرض المنخفضة» رواية الحب الهندي المعقد (نازك سابا يارد)

 

نازك سابا يارد

«الأرض المنخفضة» لجومبا لاهيري رواية في القائمة القصيرة لجائزة بوكر البريطانية. بطلاها أخوان هنديان من أسرة فقيرة، لا يفترقان، إلى أن استطاعا بتفوقهما أن يتابعا دراستهما الجامعية في جامعتين مختلفتين. أودايان تحمّس لثورة الفلاحين في «دارجيلنغ» وانحاز إلى الفكر الماركسي، متأثراً بماو تسي تونغ، أما أخوه سوبهاش فلم يقتنع بأن أيديولوجيا مستوردة تستطيع حلّ مشكلات الهند. ونال منحة إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسة دكتوراه في الهندسة الكيميائية. وذات يوم فاجأه أخوه بنبأ تزوّجه فتاة أحبها واختارها هو، لا والداه، كما جرت العادة، إلا أن ضائقته المادية اضطرته إلى السكن مع والديه. ويوم وصلته برقية من أهله تنبئه بأن الشرطة قتلت أخاه أثناء الاضطرابات الأمنية التي عصفت بكالكاتا، اضطرّ إلى العودة حالاً إلى كالكاتا.
لم يكن أحد في استقباله، وحين جلسوا للعشاء لم تجلس أرملة أخيه معهم، أكلت غاوري وحدها في المطبخ، لم يخاطبها والداه، وظلت وحدها. حين كلمها سوبهاش عرف أن أهلها وأهله غاضبون عليها لأنها لم تتزوج وفق الأعراف، وأنبأته أنها حامل، ولكن زوجها قُتل قبل أن يعرف. ضايق سوبهاش سوء معاملة والديه لغاوري، فقرّر أن يتزوجها، مع أنه لا يحبها، وأن ويصطحبها إلى أميركا، ليخلصها والجنين من الجو الخانق الذي تعيش فيه.
لاحظت غاوري أن عيني سوبهاش لطيفتان ولكنهما ضعيفتان، فرأت أن هذا الضعف هو الذي دفعه إلى أن يتزوجها ويقدّم لها الخدمة التي قدّم. وأخذت تقارن بينه وبين أخيه: سوبهاش يعدّ طعامه بنفسه ويغسل الأواني، فيما كان أخوه ينتظر أن تخدمه هي أو أمه. إلا أنها رفضت أن تنام معه، فناما في غرفتين مختلفتين، إلى أن وضعت بنتاً سمّاها سوبهاش «بيلا». فانتقلت غاوري إلى فراش زوجها. ولكن على الرغم من كل محاولات سوبهاش، لم تستطع أن تتأقلم، وانعكس انقباضها على ابنتها، التي عاملتها ببرود: لم تركض بيلا إليها يوماً كبقية الأولاد، لم تخبرها ما يحدث لها في المدرسة، لم تُرِها الرسوم التي كانت ترسمها. كذلك كانت غاوري باردة مع زوجها، فلم يشعر قط أنها تحبه أو تحبّ ابنتها التي كانت أقرب إلى سوبهاش منها إلى أمها، ورفضت غاوري أن تنجب منه حين طلب ذلك. نفرت منه ومن ابنتها، وعاشت في ذكريات حبها الأول مع أودايان الميت.
ثم التحقت بالجامعة تتابع دراستها في الفلسفة، تقضي الساعات هناك هرباً من زوجها ومن ابنتها. وحين اكتشف أنها تترك الطفلة وحدها في البيت، ثارت ثائرته، قطع علاقته بها، لم يعد يكلمها، ولم يبقَ معها إلا بسبب بيلا. ثم توفي والده فسافر مع بيلا إلى الهند، حيث تعرّفت بجدتها، وبوطنها الأصلي. وحين سألت بيلا من الشاب الذي علقت جدتها صورته على الحائط قال لها إنها صورة عمها، إذ اعتبرت بيلا وكل من كان يعرفهم أن سوبهاش هو والدها. وكانت العلاقة بينهما حميمة جداً كعلاقة أب بابنته.
حين عادا من الهند وجدا رسالة من غاوري تنبئهما أنها غادرت إلى كاليفورنيا. لم تترك عنوانها ولا رقم هاتف، فقط اسم الجامعة التي ستدرّس فيها. وفيما انهمكت غاوري في التدريس والتأليف، استأنف سوبهاش حياته مع بيلا. وحين مرضت والدته في الهند كان يزورها كل سنة إلى أن توفيت. إلا أن علاقة بيلا به بدأت تسوء، وتدنت علاماتها في المدرسة، إلى أن استشار معالجة نفسانية. حين أنهت دراستها الثانوية انتظر سوبهاش أن تسير على خطى والديها، ألا أنها فاجأته بأنها فضلت العمل في المزارع، تزرع وتحصد وتهتم بالفقراء والمعوزين. فتساءل: هل هذه جينات والدها أودايان فيها؟ بين الفينة والأخرى كانت تزور سوبهاش حاملة إليه علب فاكهة أو خضار من المزارع التي تعمل فيها. وحين زارته ذات يوم أنبأته أنها حامل ولا تريد أن تتزوج والد الطفل، رافضة أن تقول من هو، ولكن مصرة على الاحتفاظ بالطفل. حينذاك أحسّ سوبهاش أن الوقت قد حان ليقول لها الحقيقة، عن والدها الذي قُتل، أنه هو عمها. رفضت أن تصدقه في أول الأمر، وبكت، ثم بدأت تفهم سبب تصرفات والدتها، عدم عطفها عليها ورفضها العودة معهما إلى الهند.

طلاق وأوراق

وضعت بيلا بنتاً سمــتها مِغنا، ثم تعرفت إلى «درو» وتحابا. وكتب ســـــوبهاش إلى غاوري يطلب منها الطلاق لأســباب عمــلية. أعدت الأوراق الضرورية وطارت إلى ما كان بيتها سابقاً. لم يكن سوبهاش في البيت، وحين عرفت بيلا من هي، وأنها أمها، طردتها بقسوة، مؤكدة أنها لا تريد أن تراها بعد ذلك. إلا أنها كتبت إليها في ما بعد، عن ابنـــتها مِغنا، تاركة لها حرية الاتصــال بها ثانيةً. وتنهي الأديبة روايتها مع سوبهاش في إيرلندا في شهر العسل مع زوجته الثانـــية التي قدرته حق تــقدير. وحين توقفا أمام حجارة قديمة نصبت في الماضي لآلهة عبدوها، عاد سوبهاش بذاكرته إلى الشاهد الحجري الذي كان قد وضعه رفاق أخيه في الأرض المنخـــفضة، حيث قتله الجنود، وحيث كان يلعب مع أودايان حين كانا طفلين. بذلك تغلق الأديبة الدائرة التي كانـــت قد فتحتها بطفولة بطليها، مروراً بســيرتهما وقتل أحــدهما، فيتضح للقارئ معنى العنوان ودلالته، وإلامَ ترمز هذه الأرض المنخفضة.
وفي الرواية تحليل دقيق لنفسيات الأشخاص، لا سيما نفسية سوبهاش، ووالدته وغاوري. تحسن تصوير إحساس سوبهاش بالغربة والعزلة وعدم الانتماء أثناء وجوده في الولايات المتحدة، وشوقه إلى الهند ووالديه وأخيه، شعوره بأنه «مقطوع من ماضيه» (ص83). كما تجيد نقل الصراع الذي دار في نفس سوبهاش بين تعلقه الجنسي بالأميركية «هولي»، من ناحية، وحبه لأهله الذين سيرفضونها لأنها مطلقة وأكبر منه سناً وليست منهم، فأخذ يدفع هذه الاعتراضات إلى مؤخر رأسه وأبقى علاقته بها سراً. ولأن غاوري أحست بالامتنان تجاه سوبهاش عجزت عن إظهار شكرها له على ما قام به، أن تقول له إنه أفضل من أخيه، وإنه ينظر إليها نظرة مختلفة لأنه لم يتزوجها إلا ليحميها. أما والدة أودايان وسوبهاش، فكرهت كنتها لأن أودايان تزوجها من غير أن يكون لوالديه دخل، وزاد كرهها لها بعد أن تزوجها سوبهاش الذي غضبت عليه لأنه ذكّرها، حياً، بأخيه الميت (ص186).
ومن الطبيعي أن تعكس الرواية الجو الذي تدور فيه أحداثها، وعلى رأسها الأحداث السياسية التي واكبتها. تدور القصة في منتصف القرن التاسع عشر، كان نهرو قد توفي وأصبحت ابنته أنديرا رئيسة وزراء. نشبت ثورة الفلاحين في «دارجيلينغ» عام 1967 لأن الإقطاعيين كانوا قد صادروا أراضيهم وحيواناتهم ومحاريثهم وتعدوا عليهم وضربوهم من غير أن تتدخل الشرطة. فتصوّر الرواية الاضطرابات الأمنية والاغتيالات في كالكاتا وإرهاب الشرطة وتعذيب المناضلين. ثم امتدت الثورة والاضطرابات إلى الجامعات قبل أن تخمدها الحكومة بعنف لم يكن قد سبق له مثيل، مخلفة عشرات القتلى الأبرياء. كذلك نرى صورة الصراع الدموي بين الهندوس والمسلمين.
نجد صورة الحياة العادية، العادات والتقاليد والمعتقدات. منها أن الإلهة «دوركا» تنزل مع أولادها الأربعة من السماء لتزور والدها «هالايا» في يوم معيّن من السنة قبل أن تعود إلى زوجها «شيفا». يحتفل هنود البنغال بهذا اليوم. ونرى صورة لأعراسهم، وعاداتهم، منها أن الوالدين يختاران الزوج أو الزوجة لأولادهم؛ وقبل السفر أو بعد العودة منه ينحني الابن أوالابنة على أقدام الوالدين لتقبيلها؛ وحين قُتل أودايان خلعت أرملته كل حليّها، حداداً، ولبست سارياً أبيض وامتنعت عن أكل السمك واللحمة.
وحين انتقلت غاوري إلى الولايات المتحدة تصف الأديبة وصفاً دقيقاً طريفاً مواجهتها في أول الأمر لهذه الحياة الجديدة. مثلاً، اشترت علبة جبنة طريّة ظناً أنها شوكولاتة فتعجبت من طعمها المالح. وأدهشها أنها استطاعت أن تدخل جامعة سوبهاش وتتجوّل فيها من غير أن يعترضها أحد، أو أن يكون هناك شرطي، كما في جامعتها في الهند. وبدقة وحساسية تصف الأديبة الخطوات البطيئة التي خطاها سوبهاش وغاوري إلى أن تغلّبا على خجلهما وناما معاً.
الرواية تحلل علاقات الحب والإخلاص المعقدة. إنها قصة حب نادر وإخلاص نادر، وفي الوقت نفسه، قصة فقدان وإحساس بالوحدة والعزلة وعدم الانتماء. حب الأخوين كان حباً نادراً دفع سوبهاش إلى تزوج أرملة أخيه ليخلصها من حياتها الكئيبة، مع علمه أنه لا يحبها وأنها هي أيضاً لا تحبه، فعاش معها وحيداً، معزولاً. أما هي، فظلت تعيش في ذكريات حبها الأول لأخيه، معرضة عن سوبهاش وحتى عن ابنتها التي كانت ثمرة زواجها الأول. وسوبهاش أحب ابنة أخيه كما لو كانت ابنته، ولكن حين أخبرها أنها ابنة أخيه، نفرت منه، ولو لمدة وجيزة، كما نفرت من أمها التي كانت قد تركتها، فطردتها من حياتها كما كانت هذه الأم قد طردتها من حياتها. ولكن حين تنتهي الرواية بزواج سوبهاش السعيد، مبنياً على الحب والتفاهم، يشعر القارئ بأن ما أرادت الكاتبة أن تبلّغه هو أن الحب يستحق ما يعترض سبيله، وأنه منتصر في نهاية المطاف.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى