«الإخوان المسلمون» بين الإقصاء والإدماج (مصطفى اللباد)
مصطفى اللباد
أصبح الدكتور محمد مرسي جزءاً لا يتجزأ من ماضي مصر السياسي، بعد انتصار الموجة الثانية من الثورة المصرية، لكن جماعة «الإخوان المسلمين» بتركيبتها الراهنة ليست كذلك بعد. بمعنى آخر، لم تنته المعركة السياسية الدائرة في مصر بإزاحة الدكتور محمد مرسي من السلطة، وإنما يجب أن تمتد هذه المعركة إلى إعادة تشكيل الجماعة عبر تفعيل تناقضاتها الداخلية وتهيئة الظروف المناسبة لتحقيق ذلك. سيدفع الإقصاء أنصار الجماعة، ومعها أقسام مهمة من تيار الإسلام السياسي، إلى العنف، وفي الوقت نفسه ستهبط قاعدة «عفا الله عما سلف» في التعامل مع الجماعة بمجريات الثورة إلى مستوى حادث سير في أحد أزقة القاهرة. لذلك يُعدّ استيعاب الجماعة في العملية السياسية الجديدة على هدي من الواقع الجديد وتوازناته وضمن شروطه، أمراً مطلوباً لوصول الثورة إلى أهدافها بأقل كلفة مجتمعية ممكنة.
تتعالى أصوات كثيرة تطالب بإقصاء كل أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين» من الحياة السياسية المصرية الجديدة، وسجن قياداتها، وحل التنظيم وحظره بقوة السلطة الجديدة. قد يكون ذلك مفهوماً، بعد ما ذاقه المصريون من تعنت الجماعة وممثلها في قصر الرئاسة، خصوصاً في غمرة الفوز ونشوة الانتصار. ومع ذلك فما زال أنصار الجماعة في الشوارع، مع التسليم بعدم قدرتهم على إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء. لا يجب أن تحجب نشوة الانتصار عيون الثورة عن خمس حقائق أساسية: أولها، أن تيار الإسلام السياسي ليس ظاهرة مجتمعية متعلقة بما يسمى «الربيع العربي» فقط، وإنما تجربة تمتد بجذورها إلى عقود سابقة، وبالتالي لا يمكن منطقياً شطب تاريخ كامل من التغلغل الفكري والعقائدي لهذا التيار في العقول خلال فترة زمنية وجيزة. كما أن جماعة «الإخوان المسلمين» هي التنظيم الأكبر للإسلام السياسي على مستوى العالم، وأن فرعها في مصر يقود هذا التنظيم الدولي متعدد الصلات الحركية، وهو ما يعني بالنهاية أن الإقصاء له أثمان تتجاوز الحدود السياسية لمصر. تتمثل ثالثة الحقائق في أن الإقصاء سيفتح الباب على مصراعيه أمام الأطراف كلها الراغبة في تحكيم السلاح واللجوء إلى العنف، لأن مدخل العملية السياسية سيصبح مسدوداً بالإقصاء. تتمثل الحقيقة الرابعة في أن استمرار الاضطرابات المجتمعية في مصر، سيعرقل من مهمة النظام الجديد في اجتراح إنجازات سياسية واقتصادية مطلوبة بشدة الآن من قطاعات واسعة من المصريين، وهو ما سيدفع في حال عدم تحققها إلى موجات من الاضطراب المجتمعي تهدد مكتسبات الثورة بالضياع. تقول الحقيقة الخامسة والأخيرة إنه لا معنى لتعامل القوى الديموقراطية الفائزة الآن بمنطق الصراع الوجودي الذي لا ينتهي إلا بالقضاء على أحد طرفيه، فليس هكذا تسلم المجتمعات وتدار السياسة.
تعيش جماعة «الإخوان المسلمين» راهناً حالة من الإنكار تفقدها القدرة مؤقتاً على اجتراح مبادرات، سوى تحفيز قواعدها على التظاهر واستفزاز القوات المسلحة المصرية تحت شعار «الدفاع عن الإسلام»، لغرضين سياسيين: الأول مفاده إرسال رسالة استغاثة إلى الغرب كي يتدخل، والثاني يتمثل في تحسين شروط التسوية السياسية مع التركيبة الجديدة. من الناحية الاستراتيجية للجماعة مصلحة وجودية في ألا تخسر كل شيء: الرئاسة والتنظيم والبقاء في الحياة السياسية ومصالحها الاقتصادية المتشعبة في مصر، خصوصاً أن السند الأميركي للجماعة سيتلاشى قريباً جداً.
تتمثل مشكلة الجماعة في ثلاثة أمور أساسية: أولاً، وعي قادتها بأهمية الوصول إلى تسوية مع النظام السياسي الجديد للحفاظ على ما تبقى من مكاسب اقتنصتها الجماعة على مدار تسعة عقود، وصعوبة إقناع قواعدها المدفوعة إلى «الاستشهاد دفاعاً عن الإسلام وشرعية الرئيس مرسي» بتسوية كهذه. وثانياً، صعوبة إدارة التفاوض على الخروج الآمن للجماعة من مأزقها الحالي في فترة وجيزة من الزمن، ونعني بالخروج الآمن جسم التنظيم وقياداته، وأيضاً الحفاظ على رأسمال التنظيم المتراكم في السوق المصرية في السنتين الأخيرتين تحديداً. وثالثاً حلول السلفيين محل الجماعة كممثل للإسلام السياسي في التفاوض على شروط العملية السياسية الجديدة، وهو ما سيخصم من رصيد الجماعة ويعدل الأوزان لغير مصلحتها في الشارع الإسلامي.
تتصارع الجماعة منذ سقوط محمد مرسي مع الوقت، ما انتج متواليات لا تصب في مصلحتها: كلما مضى الوقت، تراخى الضغط الدولي والإقليمي على التركيبة الجديدة، وتبخرت أحلام الجماعة وتراخت قبضتها على متظاهريها بالشارع. وكلما انقضى الوقت أيضاً، صعبت مهمة الوصول إلى تسوية مع التركيبة السياسية الجديدة، في ضوء تزايد الدم في الشارع والاعتراف بالسلفيين كشريك إسلامي وحيد في العملية السياسية. وفي الوقت نفسه، تؤدي المتواليات المذكورة إلى نتيجة فائقة الأهمية، مفادها أنه كلما قلت قدرة الجماعة على إيذاء التركيبة السياسية الجديدة، صعبت مهمة الجماعة في الجلوس للتفاوض معها من موقع متكافئ نسبياً. ما يجب أن يهم الآن هو تحاشي مخاطر الإدماج غير المشروط للجماعة في العملية السياسية الجديدة؛ فمن شأن التفريط واعتماد المبدأ الأخير، أن تعود الجماعة المشهورة بـ«تقيتها» إلى الحياة السياسية بالأدوات والأساليب نفسها لتهدد مسار العملية الديموقراطية، تلك التي اختصرتها الجماعة في «غزوات الصناديق».
تحتاج قوى الثورة المصرية باعتبارها صاحبة المشروعية السياسية والأخلاقية الأكبر في الثورة إلى اجتراح توازنات تاريخية مع جماعة «الإخوان المسلمين»، بحيث تعي الواقع الجديد وتعقيداته ومخاطر الإقصاء وكلفته المجتمعية العالية، من دون أن تنزلق إلى محاصصة مع جماعة غير ديموقراطية بتركيبتها الحالية على الأقل، وتقديم مكافأة لمعتدٍ على ارتكاباته السابقة، ما سيعني سذاجة سياسية قل نظيرها.
بمختصر الكلام، تحتاج مصر في اللحظة التاريخية الراهنة إلى تسوية تاريخية تسمح بصياغة إطار جديد للعلاقة مع جماعة «الإخوان المسلمين». إطار يفصل بين السياسي والدعوي، وبين قيادات الجماعة من التيار القطبي المتهمة بالعنف ومحاكمتها محاكمات عادلة عما هو منسوب إليها من تهم، وبين أعضاء الجماعة غير المتهمين في جرائم بعينها.
تحتاج مصر إلى عملية سياسية متكاملة ومن ضمنها قوانين انتخابات جديدة عادلة وإدارة صراعات على البرامج السياسية -الاجتماعية، وليس على الهوية والتمحور حول ثنائية الإسلاميين مقابل العلمانيين.
الوقت ليس في مصلحة الجماعة، وهو ما يجب استثماره بشكل جيد؛ عبر اجتراح مبادرات حوار مؤطرة بتوازنات الواقع الجديد، وضمن شروطه وتوازناته. سيجعل ذلك الجماعة رهينة محبسي الرفض والقبول، وكلاهما سيكون باهظ التكلفة عليها، بعد أن يفعّل تناقضاتها الداخلية بين قواعدها الشبابية وقياداتها الهرمة؛ و«حمائمها» وصقورها.
أحرز المصريون انتصارهم الكبير على الجماعة، ويتبقى أن يحسنوا إدارته في المرحلة المقبلة.
صحيفة السفير اللبنانية