«الدائرة» والمستقبل المرعب ( جميل مطر)

 

 جميل مطر

الخوف الذي شعرت به قبل عقود وأنا أقرأ كتاب جورج أورويل «1984» وكــتاب آلدوس هاكــسلي «عالم شجاع جديد» عدت أشعر به وأنا اقرأ عشرات العروض لكتاب صدر منذ أسبوعين لدافيد إيغرز بعنوان «الدائــرة» . أورويل كان يحــذرنا مــن جــماعة أو حزب سياسي يعتزم إعادة كــتابة الماضــي وإدارة أمور الحاضر ويقيم حكومة «ترى كل شيء وتــعرف كل شيء»، وتكون أهــم وزارة فيــها وزارة الحــقيقة التي تقوم على شعارات ثلاثــة يجب أن يحفـظها الشعب ويرددها. أما الشعارت فهي شعار الحرب هي السلام وشعار الحرية هي العبودية وشعار الجهل هو القوة.
مرت سنوات على خوفي الأول وجاء خوفي الثاني فكان أشد. في الحالة الاولى كنا نعيش بين الفينة والأخرى محاولات الحكام المستمرة لاستعارة فكرة أو فكرتين من النظام السياسي الذي تخيله جورج أورويل. عشنا في ظل رقابة متقطعة نحمد الله انها كانت قاصرة وعاجزة بسبب نقص كفاءة موظفي الرقابة. كانت الرقابة ضعيفة وإن قمعية. وعشنا في ظل محاولات الأمن الداخلي، التنصت على مكالماتنا الهاتفية وقراءة رسائلنا الخطية، ولكن من حسن حظنا، كنا نسمع على الهاتف اشارة بدء التنصت فنتحادث بحرص، فضلا عن أن رسائلنا الخطية كانت تصل إلينا في مظاريف معاد غلقها وملصق بها ما يشبه الاعتذار من جهات الرقابة عن فتحها وقراءة المحتوى. لم تكن البيروقراطية المتخلفة مؤهلة لتنفيذ مشروع جورج اورويل للرقابة على المواطنين، كما انها لم تكن مؤهلة لإقامة وزارة «الحقيقة» بالمعنى الذي قصده أورويل. كانت وزارات الإعلام والثقافة في معظم الاحيان، في مصر وفي غير مصر، مثار سخرية الناس، ولم يأخذ المواطنون شعاراتها مأخذ الثقة والجدية. بشكل ما وبمعنى ما لم يشارك المواطنون بحماسة في إقامة دولة الاستبداد. ربما شارك بعضنا بسلبيته أو بنفاقه أو بانتهازيته ولكن بالتأكيد لم تشارك الأغلبية بالاقتناع والايمان. قامت دولة الاستبداد الهزيلة في عديد الدول العربية ولكن لم تقم في واحدة منها دولة جورج أورويل.
[[[
الخوف الذي اعتراني وانا أقرأ العروض وأسمع التعليقات على كتاب «الدائرة» مختلف. سبب الاختلاف واضح في ذهني تماما. فأنا وغيري من الملايين المستفيدين من «الانترنت» ومن منتجات شركات مثل غوغل و«الفيسبوك» و«تويتر» وغيرها، مشاركون بحماسة واندفاع وايمان مطلق في صنع هذا المستقبل الذي تخيلته هذه الشركات مجتمعة أو منفردة التي اختارت وادي «السيليكون» في الغرب الأميركي موقعا لها. و بالتدرج المتسارع وجدنا أنفسنا نؤمن بشعاراتها «المقدسة» . من هذه الشعارات شعار «المشاركة حب وتعاطف»، وشعار «الاسرار أكاذيب» وشعار «الخصوصية سرقة» . انا وانت وكل من يتعاطى الرسائل النصية والبريد الالكتروني ورسائل «الفيسبوك» نسعى وراء بعض النميمة. نسعى وراء النميمة مقابل تنازلنا عن حقنا في خصوصيتنا. نريد أن نقرأ أو نسمع عن خصوصيات الآخرين أكثر من اهتمامنا بأن نحمي خصوصياتنا. صرنا مثل أباطرة وادي «السليكيون» نؤمن بأن الخصوصية سرقة وانه لا يجوز أن نمتلك رصيدا خاصا بنا على مستوى المعلومات أو المعرفة. أليست هذه الحالة التي وصلنا إليها تستحق صفة «شيوعية المعرفة». نعيش حالة اقرب ما تكون الى الحالة الشيوعية حيث لا أحد يحق له امتلاك معلومة تخصه وحده أو عائلته أو المجتمع الذي نعيش فيه.
ذكرني احــد العــروض بكتــابات بيــير جوزيف برودون في القرن التاسع عشر عندما كان يقول إن الملكية الخاصة سرقة. هذا بالضبــط ما يؤكده الآن الحكماء في وادي «السليكون». يقول هؤلاء العــباقرة إنــه لا يوجد أساس مشروع للخصوصية وإن شركاتهم عندما تذيع اسرار الناس من دون استــئذانهم، فإنما تقوم بعمل حضاري عظيم، لأنها بما تفعل تقضي على خرافات وخزعبلات بدائية، مثل التكتم على ممارسة الجنس والدخول في علاقات خاصة خلسة.
لا نية سيئة لدى شركات التكنولوجيا، فهي عندما تشن حملة من أجل زرع شرائح في مخ الأطفال للتعرف على أماكن وجودهم فإنهم يهدفون الى منع اختطاف الاطفال. وعندما يدعون الى تحرير الخصوصية واعتناق الشفافية فإنهم في الحقيقة يمهدون الطريق للتخلص من الاستبداد. بل ان بعضهم يعتقد وبقوة أن ما تقوم به هذه الشركات هو بشكل من الأشكال «حركة تحرر» جديدة ضد استبداد الخصوصية والتكتم وعوالم السرية. يقول أحد المؤسسين إنهم حين يقيمون كاميرات التصوير على الشواطئ وفي «ميدان التحرير في القاهرة أو ميدان السلام السماوي في بكين» فلأنهم يريدون منع تحرش قوات الشرطة والأمن بالمتظاهرين.
وعندما يدعون كل مواطن ليرتدي قلادة مدلى منها كاميرا دقيقة جدا فالهدف هنا أيضا حمايته، فضلا عن أن الكاميرا تسجل ما يفعله بحياته من المهد الى اللحد ودقيقة بدقيقة. لا استبعد أن يوما سيأتي تطـلب فيه منا قوات الأمن والتجسس تسليمها شريط الكاميرا دوريا لتتطلع على محتوياته أو تحتفظ به في سجلاتها.
أليس ظلما أن يذهب أحدكم فيقضي ليلة ساهرة يرقص فيها حتى الصباح وينعم بصحبة الجميلات والأنيقات بينما مواطن آخر اقعده المرض أو العجز ينام في فراشه لا يحظى بمتعة مماثلة؟ لماذا لا نسمح له بأن يشارك من خلال الكاميرا التي يحملها في عنقه زميله الاسعد حظا؟ ألا تحقق هذه المشاركة نوعا من العدالة الاجتماعية والانسانية ومساواة كالشيوعية التي كان يحلم بها كثير من الرومانسيين في القرنين التاسع عشر والعشرين؟ ألا نرى في هذا التقاسم وجماعية المعرفة ما يقربنا جميعا من أفكار ماوتسي تونغ وغيره من الماركسيين.
هل من العدل أن ترى شيئا جديدا أو تسعد بصحبة شخص ممتع من دون ان تطلع من حولك على ما رأيت وسمعت، وتشركهم معك؟ حكماء وادي «السيليكون» يقولون إنك اذا حرمتهم من هذه المشاركة فأنت تسرقهم.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى