«بردقانة» إياد برغوثي كرة فلسطينية تخترق الأسلاك (سلمان زين الدين)

 

سلمان زين الدين

«بردقانة» اسم يُطلقه الفلسطينيون على ثمرة البرتقال التي تشتهر بها فلسطين المحتلة. ويُطلقه فايز غندور، بطل رواية «بردقانة»، للكاتب الفلسطيني إياد برغوثي (دار الآداب ومحترف نجوى بركات للرواية)، على «كرة قدم ألمانية الصنع لا أخت لها في كل فلسطين»، اشتراها من صانع أحذية ألماني (ص25). ويُطلقه برغوثي على عمله الروائي الأول. وهكذا، يُحيل العنوان على مدلولات زراعية، وطنية، رياضية. ويُشكّل مفتاحاً مناسباً لولوج الرواية.
تدور أحداث الرواية في مدينة عكا الفلسطينية، العام 1945، في لحظة تاريخية ترزح فيها فلسطين تحت الاحتلال البريطاني، يتربّص بها المشروع الصهيوني، وتخرج لتوّها من ثورة لم تحقّق أهدافها، وتقترب من لحظة إعلان الكيان الغاصب. على أن هذا التأطير لا يعني تاريخية الرواية بقدر ما يشير إلى إضاءة فضاء اجتماعي تضطرم فيه المشاعر الوطنية وتحتشد المخاطر في لحظة تاريخية معيّنة.
في بداية الرواية، يفتقد فايز غندور، مدرّب فريق النادي القومي الرياضي في عكا، حضور خطيبته ثريا المباراة التي ينتصر فيها فريقه على فريق نادي الروضة. وفي نهاية الرواية، يراها من بعيد تتابع المباراة التي يخوضها الفريق العكاوي ضد فريق نادي النهضة الناصري ولا يعيرها اهتماماً. بين هاتين الواقعتين يمتد سلك العلاقة بين فايز وثريا، ويتعرّض لاهتزازات وتحوّلات تبلغ حد الانقطاع. تتوازى معه أسلاك أخرى، تطول أو تقصر، رياضية أو وطنية أو اجتماعية. ترتبط الأسلاك بعضها ببعض. تخضع كلها لجدلية الظهور والاختفاء، ويؤثّر بعضها في البعض الآخر.
يُشكّل الانتصار الساحق الذي حقّقه فايز غندور وفريقه على رجب أبو دقنين وفريقه الحدث الرياضي الذي تبدأ به الرواية، وتكون له مضاعفات إيجابية وسلبية على بطل الرواية؛ فمن جهة، يرسّخ مكانته الرياضية ما يرشّحه لمهمّة رياضية وطنية، يكلّفه بها سكرتير الاتحاد الرياضي. ومن جهة ثانية، يثير حفيظة مدرّب الفريق الخاسر، فيروح يتربّص به شرّاً، ويُقسم بأن يمنعه من دخول أي ملعب كرة في حياته.
تنمو أحداث الرواية، على الأسلاك المختلفة، العاطفية والرياضية والوطنية والاجتماعية، وتتمحور حول الشخصية الرئيسة التي لا تغيب عن أي من الوحدات السردية الـ19 التي تتألّف منها الرواية؛ النمو على السلك الرياضي ينعكس على الأسلاك الأخرى، والتحوّل على هذا السلك ينعكس بدوره عليها. ولعل واقعة استدعاء فايز غندور من جانب عبدالرحمن الهبّاب، سكرتير الاتحاد الرياضي، شكّلت دافعاً للنمو على الأسلاك المختلفة؛ فتوطّدت علاقة الحب بخطيبته إلى الاتفاق على موعد الزواج ومكان السكن. وأجّجت مشاعره الوطنية فراح يعدّ العدّة لتأسيس منتخب فلسطين الوطني والخروج به إلى العالم العربي والعالم الأوسع. وعزّزت مكانته الاجتماعية في مدينته.
في غمرة هذا النمو المتوازي بين الأسلاك المختلفة، يأتي نشر خبر صحافي في جريدة محلّيّة يرفض اختيار فايز مدرّباً للفريق الوطني، ويتهم أباه المقتول في ظروف غامضة بالعمالة، ليشكّل نقطة تحوّل رئيسة في مسار الأحداث. ينزل الخبر كالصاعقة على فايز، وتكون له ارتداداته المدمّرة على الأسلاك المختلفة؛ تتخلّى عنه خطيبته، في عزّ محنته، على رغم نصيحة أخيها البكر، نجيب الصحافي، بالتروّي، وتُعيد له هداياه. يعلّق الاتحاد الرياضي قرار اختياره مدرّباً وطنيّاً حتى تبتّ اللجنة العليا بالأمر. تثور ثائرة فايز، يلازم بيته، ويشهد على تهاوي أحلامه على الصعد المختلفة. هنا، تقول الرواية خطورة إطلاق الأحكام على عواهنها، والأثر المدمّر للتخوين العشوائي. «كما الخيانة، التخوين العشوائي أيضاً دمّرنا، يا ثريّا، مزّقنا. كأننا لم نكتفِ ببطش الانكليز، ولؤم الصهاينة، فبطشنا بأنفسنا». يقول نجيب لأخته ثريّا، في محاولة منه لثنيها عن موقفها الانفعالي. (ص128)
في مواجهة الانهيارات الناجمة عن نشر الخبر، المتمثّلة في: فسخ الخطوبة، تعليق التعيين، والانطواء على الذات، تكون لمجموعة شخصيات أدوارها في إخراج فايز من محنته واستعادة حياته الطبيعية؛ فموقف أمّه الحازم ورفضها أي تشكيك بوطنية زوجها المغدور، وموقف الأخ الأصغر منير الذي ينظر إلى المسألة بعقل بارد ويُدير معه حواراً حول مفهوم العمالة حمّال الأوجه، ونجاح العم محمود غندور كبير العائلة في إخراج فايز من عزلته ودفعه إلى العمل معه، ومساندة فخري ومؤيّد صديقيه الأثيرين، هي عناصر ساهمت في تجاوز فايز محنته واستعادة حياته الطبيعية، فيقرّر تلبية دعوة أعضاء فريقه السابق لحضور مباراة ضد فريق النهضة الناصري، ويكون له دوره في تعديل مسار المباراة وربما نتيجتها لمصلحة فريقه، الأمر الذي يجعله موضع احتفاء الجمهور العكاوي، ويجعله «على خطوط التماس، في عزّ اللعبة، في الحدّ الفاصل بين فوز محتمل وخسارة ممكنة!» (ص 182)، أي أن فايز لم يعد محشوراً في زاوية الخسارة، وأن فوزه احتمال مطروح.
بين الشخصيات التي لعبت دوراً سلبيّاً في محنة فايز لجهة التسبّب بها أو استغلالها أو التخلّي عنه خلالها (رجب أبو دقنين، ثريا، مندوب النادي المقدسي)، والشخصيات التي لعبت دوراً إيجابيّاً في محنته، فساندته، وشدّت من أزره، وساعدته على تجاوزها (الأم، الأخ، العم، الصديق، سكرتير الاتحاد، الناس)، يبرز طرف آخر هو الصحافي نجيب، شقيق ثريا، فيُجري تحقيقاً صحافيّاً للوصول إلى الحقيقة، ويكتشف أن الشرطة السرية البريطانية كانت وراء عمليات اغتيال كثيرة، وقد تكون عمليّة اغتيال والد فايز واحدة منها، ما ينفي عنه شبهة العمالة. يدعم هذا الاستنتاج التحقيق الذي أجرته معه الشرطة، والتهديد الذي تلقّاه منها، ومنعه من نشر المقال.
لذلك، يشير إياد برغوثي في روايته إلى خطورة إطلاق الأحكام على الناس، والأثر المدمّر لسَوق الاتهامات المجانية، ودور أجهزة الاستخبارات في تلفيق التهم، وتشويه الحقائق، وتضليل الناس خدمة لمآربها واستراتيجياتها.
في «بردقانة» ثمة أحداث تُجانب الواقعية في الفضاء الاجتماعي الذي تتناوله الرواية؛ فالاحتفاء بتعيين فايز مدرّباً للفريق الوطني، وإقامة أمّه حفلة استقبال للنساء، والإقبال الشعبي على لعبة كرة القدم، هي وقائع تعكس وعياً رياضيّاً مبكراً في لحظة تاريخية تغلي بالأحداث وتنفتح على كل الاحتمالات. فهل كان هذا الوعي متوافراً في تلك اللحظة أم أن في الأمر مبالغة وإسقاطاً للحاضر على الماضي؟ وثمة وقائع لا تتناسب مع طبيعة الشخصية الروائية الصادرة عنها؛ فملازمة «بردقانة»، الكرة، لفايز في حلّه وترحاله، في الملعب والمقهى والشارع والبيت، لا تناسب صفات هذه الشخصية الرصينة، القائدة، المسؤولة. وقد بلغت هذه الملازمة حدّ إثارة غيرة خطيبته ثريا. ألا يتنافى هذا التعلّق المَرَضي بالكرة مع مقوّمات الكابتن الناجح؟
وفي السياق نفسه، تنسب الرواية إلى الأم سخريتها من بعض التقاليد التي تربط المكانة الاجتماعية بالنَسَب بينما تنسب إلى الابنة سعاد احترامها لهذه التقاليد. أليس في الأمر مفارقة؟ يستخدم إياد برغوثي في روايته خطاباً روائيّاً بسيطاً، والبساطة هنا ليست حكم قيمة. يصطنع راوياً واحداً عليماً. يتبع زمناً خطيّاً تطّرد فيه الوقائع المتعاقبة، وتقلّ الذكريات، وتغيب تقنيات السرد الأخرى. وهو يفعل ذلك بلغة روائية مناسبة، سلسة، رشيقة. يستخدم المحكية الفلسطينية في الحوار، والمحكية المصرية في حالة مصرية المحاور (محمد الكحلاوي)، ما يُوهم بواقعية الشخصيات. يستخدم التعابير والأمثال الشعبية ما يشي بشعبيتها. والمفارق هنا أن ترد هذه الأمثال على ألسنة شخصيات مدينية، في إحالة على خلفيّاتها الاجتماعية. على أن الكاتب يستخدم مصطلحات المعجم الرياضي وتراكيبه في بعض الوحدات السردية، الأمر الذي يناسب الشخصية المحورية في الرواية.
«بردقانة» رواية فلسطينية تكسر التيمات النمطية للرواية الفلسطينية من مقاومة وتهجير واعتقال واستشهاد، وتدعو مداورةً إلى إعادة النظر في مصطلحات ومفاهيم أفرزتها الوقائع الفلسطينية المتعاقبة عبر مسارها الطويل، وبعضها ينتمي إلى ما يُعرف باللغة الخشبية… وهي في بنيتها الروائية البسيطة وحكايتها المختلفة تُشكّل علامة فارقة في الرواية الفلسطينية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى