«قطر العظمى»..ما قصتها؟ (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

ضآلتها الجغرافية وندرتها السكانية لا يؤهلانها لتكون ملعباً أو لاعباً إقليمياً. أموالها الفائقة، تؤهلها لتكون من الدول «الناعمة»، أو من منظومة إمارات «الفردوس الضريبي» الثرية، التي تعيش وتتنعم من دون منغّصات سياسية. حكمها الوراثي، الانقلابي أحياناً داخل العائلة المالكة، يرشحها لتكون عضواً في دول خليجية، بصفة مراقب عاقل، «يبعد عن الشر ويغني له»، فلماذا أفلتت قطر من القدر الصغير، واختارت أن تكون لاعبة في المصير، بكامل العدَّة السياسية والديبلوماسية والمالية والتحالفية والعقدية».
يُروى، والعهدة على الراوي، وهو خبير وديبلوماسي ومن أهل المعرفة وصلات الوصل، على أن «حرب الأخوة الأعداء»، بين السعودية المهيمنة على دول الخليج وقطر الصغرى، على الحدود، ومحاولات انتزاع السيادة القطرية من السطوة السعودية، دفع الحكم في قطر إلى طلب الود الأميركي. يقول الراوي: الطريق إلى واشنطن خليجياً، في ذلك الزمن، تمر عبر البوابة السعودية. وطريق أي دولة إلى صداقة أميركا، يمر حتماً بالبوابة الإسرائيلية. وكان أمام الإمارة الصغيرة هذان الدربان فقط. اختارت الثاني، وكان لها ما أرادت، فاضحت محظيَّة أميركية، مقابل «رعاية المصالح الإسرائيلية» ما أفضى إلى علاقات علنية، لا تتجرأ عليها دولة ذات ثقل في المنطقة.
تلك كانت البداية، بات الملعب مفتوحاً لإمارة، تملك رأسمالاً أميركياً من الدعم والحماية والحظوة، ورأسمالا ماليا، يفيض عن الخزائن، وقابلا للتوظيف، لتأمين أوسع شبكة حماية لها، في منطقة، حيث الأخطار بلا حدود، والعواصف بلا ضفاف و العنف بلا هدف.
حمت قطر نفسها من السعودية. شقت عصا الطاعة. خاطبتها ندياً، وانتزعت لها حضوراً خليجياً، مشاكساً أحياناً. لم تعتمد سياسات «حرق المراكب»، لتأمين حماية أقصى لمصالحها، بل سياسة مد الجسور في كل الاتجاهات، وصولاً إلى جسر معلن مع إسرائيل. وهو الأهم والأكثر ريعية.
لا عقدة عند قطر، إذا ارتكبت «المحرم» السياسي. مالها، «غفور رحيم». ولا عقيدة أو مبدأ أو قيمة تعلو مصلحة قطر ونظامها السياسي. «المركنتيلية»، مذهب يناسبها. فالربح غايتها. ومن طبائع الربح، أن لا يتوقف عند حد. كل ربح يستدعي ربحاً إضافياً. كل ربح توقف، تحول إلى خسارة. المال لا يشبع أبداً.
تلك هي طبيعة المال في الإجمال، والحال في نظام العولمة الراهن، قوة ضاربة هائلة التأثير. ولقد استعملت قطر هذه القوة، من ضمن نظرية تراكم الأرباح، في الميادين كافة، مدعمة ببطاقة تأمين، من خلال الحماية الأميركية والتغاضي الإسرائيلي المدروس.
المال القطري ناشط ودينامي ولا حدود لانتشاره وسطوته.
فاضت أموالها كمساعدات… وتعريف المساعدات، في منطق الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون، لا يعدو كونه استثمارات. كل مساعدة لها عائد يفوق عوائد الحروب، وكل دينَ له مواثيق وقيود لا تبلغها في معارك القتال. فالمساعدات الإنسانية والمنح، تجارة رابحة.
أمّن السلاح المالي لقطر كسب المعارك في الديبلوماسية المتنقلة والنشطة، وتدخلها السريع والمبادر، في جعل الإمارة، مركز الحوار للأزمات المندلعة في المنطقة. أمّن لها نفوذاً، بمقدار ما تغدقه محفظتها على أصحاب مراكز القرار، من رجال ومسؤولين وهيئات وطوائف ومذاهب ورجال أمن وكتاب وخبراء وإعلاميين وقوى ميدانية ضاربة.
وهكذا، وبسرعة ضوئية، تحوَّلت الإمارة إلى عاصمة دولية، لحل الأزمات والمساهمة في شراء ما يلزم لإيجاد صيغ المخارج لها. «اتفاقات الدوحة» في السنوات الأخيرة، تفوق أعداد الاتفاقات التي نسجت، بفشل ذريع، في كثير من العواصم العربية.
والمال، يمحو الحدود بين القضايا والمصالح، بين المبادئ والسياسات، بين الثقافة والسياسة، بين العقائد والعقائد المضادة، بين الفكر والتخلف، بين الإعلام والتزوير. فالوسائل هي الغايات أحياناً، وهذا ما يسمى، مرحلة ما بعد ماكيافيللي.
والمال يرتكب المعجزات. المشاهد التالية مفيدة: الشيخ القرضاوي هنا، والمفكر الليبرالي الديموقراطي العلماني عزمي بشارة، هنا أيضاً. «الاخوان المسلمون» هناك إلى جانب خصومهم. مكتب رعاية المصالح الإسرائيلية التجارية والسياسية له موقعه، إلى جانب موقع رئيس المكتب التنفيذي لحركة «حماس» خالد مشعل. «جزيرة» تقف إلى جانب صدام حسين إبان غزو العراق، بالقرب من أكبر قاعدة أميركية في قطر، ومنها تنطلق أوسع عمليات الغزو. والأكثر ادهاشاً، تبرعها السخي وتبنيها، إعمار بعض جنوب لبنان بعد عدوان تموز، وقدومها إلى البلد إبان الحرب، بإذن من تل أبيب.
لا تحتاج هذه المعجزات إلى تفسير: الظن السيئ، يرى ان للإمارة دوراً تستمده من موقعها داخل منظومة تحالفاتها ومصالحها ومصالح حلفائها، وطاقة حكامها على اللعب بأمان.
«الربيع العربي»، ملعب لقطر. سجلت فيه من الأرباح، ما لم تسجله سواعد الثوار ودماؤهم. قطفت في تونس ثمار ثورة لم تكن سبباً فيها. أطاحت الثورة بن علي، وفازت قطر بسلطة، بعضُ مَن فيها ينتسب إليها. «الرفيق» الأخواني راشد الغنوشي كافأ الأمير بأن ولاه أمر تدشين مسار السلطة الأخوانية، كأنه «الأخ الأكبر».
في مصر، طرد الثوار الحقيقيون ديكتاتور مصر، فأرسلت قطر مع «جزيرتها»، مندوبها السامي الشيخ القرضاوي، لتمهيد الطريق لإقامة سلطة «الأخوان». في ليبيا، دفعت بقواتها الجوية!!! لتشارك في حرب الأطلسي، وقد سمح لها سفورها العسكري ودفقها المالي ان تصبح ولية أمر قادة المجلس الوطني، والقادة الإسلاميين الميدانيين.
لقد سرقت قطر ثورات الشباب والأحزاب والقوى. وأمَّنت الإسلاميين في الحكم: تفهماً أميركياً، وطمأنة إسرائيلية. وعوقب «الثوار»، بالحديد والنار.
قطر، ليست ربيعاً عربياً. هي قائدة «الخريف الإسلامي».
وللتحديد أكثر، وخاصة بعد مشاركتها العسكرية في ضرب حركة الاحتجاجات السلمية في البحرين، قطر تكون قائدة الثورة «باستحقاق سني أخواني».
اشترت قطر الجامعة العربية. قادتها من أنفها، ولا تزال. ولم يبق أمامها، بعد وهم تأمين حكام دول الخليج على واقعهم ومصائرهم، إلا التطرف في الحرب السورية، لإسقاط النظام وإسقاط سوريا معه… لا حجة أبداً توجب بقاء النظام السوري. هذا نظام بلا شرعية. ولكن، هناك ألف حجة لإبقاء سوريا، لا نظامها.
واضح الأثر الذي تخلفه هذه السياسة القطرية:
÷ نجحت قطر في إفراغ العالم العربي من فلسطين.
÷ نجحت في جعل «الإخوان»، إخوان قطر، لا «إخوان» فلسطين. لقد طوقت «الأخوان» بمنظومة القواعد الدولية لإقامة شرق أوسط جديد تكون فيه فلسطين جزءاً من إسرائيل فقط.
÷ نجحت في تحويل إسرائيل إلى «عدو ودود»، وتكريس إيران، عدواً وحيداً.
«قطر العظمى» ليست امارة صغيرة، هي خطر كبير على الربيع العربي وفلسطين والحرية والديموقراطية و… و… و… إلى آخره.
سلاح قطر المالي خطير جداً. فاجتنبوه.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى