«ملكوت هذه الأرض».. تاريخ لا ينتهي عند الحاضر! (سارة ضاهر)


سارة ضاهر


من المفيد أن نبدأ رواية «ملكوت هذه الأرض» (دار الآداب) للروائيّة هدى بركات، من المشهد الأول حيث يمتزج الشعري بالواقعي، يتجسّد على شكل أسطورة ملحميّة : صوت ينادي «يا بو» وكأنه يجيء من حلم بعيد. ثمّ مشهد «المزوّق» وحيداً في الجبل. الثلوج تتساقط. الفرس رجعت وحيدة إلى البيت. الضباع تترقّب. مات المزوّق. أكلته الضباع، بعد أن عجز عن متابعة السير بسبب تراكم الثلوج واشتداد حدّة البرد والعواصف. لم يبقَ منه شيء. اختفت جثته.
ثمّ تكرّر عنوان «ثلج» ثلاث مرّات، في مشهد مؤثّر، وكأنه كابوس. كان سبب البلوى التي لحقت بهذه العائلة، وضياعها فرداً تلو الآخَر إثر وفاة الوالد، ثمّ وفاة الوالدة بعده بمدّة قصيرة.
كان موت الأب هو الحدَث الذي جعل الرواية تأخذ مسارها الدرامي. المشهد برمّته تراجيدي، والجو السرديّ قاتم، حيث تكثر الصراعات وتختلف أسبابها، لكنّ جميعها يحيل إلى نتيجة مأساوية، أو حزينة على أقل تقدير: يقع تحوّل كبير، على درجة عالية من الأهميّة في مصير العائلة. تتفكّك الأواصر القديمة، بين الإخوة من جهة، وبينهم وبين أقاربهم من جهة ثانية. ويأخذ مبدأ الانتماء إلى العائلة / الجماعة يخف، وتظهر خيارات فرديّة لم تكن معروفة من قبل: «طنوس» التحق بالرهبان، في قصّة هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع: ثلاثة أيّام وهو بينهم كأنّهم لا يرونه… حين دخلوا جميعاً الغرفة وراء «كيريللوس» وجدوا أخا «أفتيموس» الإنطاكي غارقاً في دمه، يتخبّط على الأرض بقوة الثور المذبوح… ضارباً بطنه وطاعناً نبع الدم الفوار بين فخذيه… «سابا» يستقل عن إخوته و«يتزلّم» لعمّه الثري وابنه… وكذلك فعلت الفتاتان «إميلين» و«صابات» ما يوافق أهواؤهما. فافترقتا بعد أن كانتا مثل التوأمين، حتى انّ موت إحداهما لم يؤثّر في الأخرى…
وبذلك رصدَ الجزء الأول من الفصل الأول أحداث الرواية، ورسم إطاراً للأحداث والشخصيّات وللخلفيّة الزمانيّة والمكانيّة: بلدة بشرّي (الأسطورة / الواقع). تنتقِل هدى بركات في الجزء الثاني، من الأسطورة إلى الواقع. إلى تدوين أبرز التحوّلات التي طرأت على هذه البلدة الشماليّة، وبالتحديد على الصعيد الاقتصادي، وعوامل نشوء الطبقة البرجوازيّة، حيث نشطت التجارة، ووجد أهلها مصادر رزق أخرى، بفعل توافد السيّاح للتزلّج. فُتِحَت المطاعم والفنادق، وأخذ معظم السكان يعملون في البلدة في مواسم الاصطياف، في حين انتقلت بعض العائلات إلى مدينة بيروت، لتعليم الأولاد والعمل في مِهَن أخرى.
تتوالى الأحداث، لتزيد مأساة على مأساة، وضياعاً يليه ضياع. فقد ألحق هذا التطوّر الاقتصادي ضرراً في نفوس البشر، وترك آثاراً مؤلمة في حياتهم. وكأنّ هذا قد قضى على شاعريّتهم… قدراتهم وحيويّتهم وأحلامهم وآمالهم الفرديّة: «طنوس» خانه صوته، وفَقدَ متعته بالغناء، وأصبح لا يستطيع أن يغني سوى عندما يكون وحيداً. لمست «سلمى» أعضاء جسدها «اليابسة» فاكتشفت أنها تأخّرت كثيراً لتبحث عن تلك الأنثى داخلها…
هذه شخصيّات أساسيّة، أو بالتحديد، شخصيّتان رئيستان هما سلمى الابنة البكر، وأخوها طنوس؛ في حين تتوارى شخصيّات أخرى، إلاّ في كونها عناصر تخدم السرد، مكمّلة له أو شارحة لأفعاله… تقبع أسيرة لفكرة دينيّة، ومبدأ سياسيّ، وانتماء إلى قضيّة. الأمر الذي أخضع عمليّة التأليف بكاملها للثقافة السائدة حول مختلف الصراعات (بشري ـ زغرتا / مسلم ـ مسيحي).
بداية، يبرز سبب صراع (بشري / زغرتا): تروي إحدى شخصيّات الرواية «منذ مات نائبنا البيك قلنا لهم لا ترشّحوا أحداً في الانتخابات، فهذه الكرسي النيابيّة لنا ومن حقّنا. لم يردّوا. بل رشّحوا زعماء وذوي نفوذ، رشّحوا اثنين، وفاز واحد منهما سيجلس في البرلمان مكان نائبنا… مع هذا سكتنا وأرسلنا لهم: أنتم تعلمون الآن ما ينتظركم. يومكم قريب إذ كنّا حذّرناكم…»
(مسلم / مسيحي): تقول «فاطمة « لطنوس: «تزوّجني إن كنت تحبّني بقدر ما تقول. أنت مسيحي، أعرف… سأهرب معك إلى بيروت وهناك نتزوّج. إن أردتَ أصير مسيحيّة». هكذا وصلت حكاية طنوس مع فاطمة إلى نهايتها.
شرّعَت هدى بركات الأفق أمام شخصيّاتها، للانخراط في حركة واسعة. لا يحدّ حركة تلك الشخصيّات عائق، وإن ظلّ المحدّد العام لحركتها، هو نظام القيَم المرتبط بالعقيدة الدينيّة، الذي حظيَ بمكانة كبيرة في الرواية. غير أنّ معظم الشخصيّات كانت تقوم بتعديل المفاهيم الدينيّة حسب الأحوال التي تمرّ بها؛ فالتَهَمَ النزوعُ الدنيويّ النزوعَ الدينيّ، وأصبح الأخير مظهراً شفّافاً يسوّغ الأخطاء فحسب، كما حصل في جريمة قتل الجندي الفرنسي، عندما كان يحاول «طنوس» و«سلمى» بمشاركة « نجيب «زوج» نبيهة «عقد صفقة معه لتهريب الدواليب وبيعها. نشب خلاف بينهم، فما كان من «سلمى» إلا أن ضربته، فأردته قتيلاً، تقول: «هكذا أراد الرب. إنها إرادته». كذلك ترتسِم في خاطر «طنوس» الأسئلة الكبرى عن الحياة والموت، الثواب والعقاب: «ماذا فعلت أمي لتموت بعيداً عن بيتها. أمّي لم تقل يوماً كلمة نابية، وهي كانت حتى تصلّي لمغفرة خطايا أبي، وخطايانا نحن… وخطايا الحارة كلّها…».
وبذلك خلقَت هدى بركات توازياً بين مصير الأب ومصير أولاده، في إطار سردي كشف التلازم بينهم إلى حد كبير. فإذا كانت جثّة الأب قد ضاعت، بعد أن نهشها الضباع. فإنّ كلاً من الأولاد قد ضيّع مصيره بعد أن نهشته مخالب المسلّمات الدينيّة والانقسامات الطائفيّة، الصراعات السياسيّة، والظروف الاقتصاديّة الصعبة. ويبلغ الشتات ذروته، عندما استبدل الأبناء بلدانهم ببلاد أخرى، أعادوا توطين أنفسهم فيها. واستبدلوا أسماءهم بأخرى أجنبيّة، علّهم يجدون ذواتهم، أو يعيدون بناء هوياتهم التي فقدوها، بعد أن فقدوا والدَيهم. وبدّل بعضهم مهنته مرّات كثيرة… ربما يرجع هذا التشرّد إلى فقدان المكان بفعل غياب الأم والأب، اللذَيْن يشكّلان رمز الأمان والاستقرار. فأصبح الارتحال الدائم نزوعاً لا يرتوي في البحث عن مكان مفقود، مكان يؤمّن المكان، ويحتضن الأسرة والذاكرة: «سابا « وهو الأخ الأكبر، شاب خامل، ضعيف الشخصيّة، تتلاعب به «القوى الكبرى»: عمّه الرأسمالي الكبير وابنه، ينتهي سجيناً في أميركا، بعد أن وشى به أحد شركائه في تهريب الحشيش. «إميلين» تموت وحيدة في مصر. «صابات» هاجرت إلى فرنسا. «بطرس» يموت في بوسطة ذاهبة إلى تل الزعتر. أما الأحفاد : فواحد مسجون، وآخَر مخطوف، وحفيدة لا أمل لها في الزواج من حبيبها الذي لم تفصح عن هويّته، فآثَرَت الزواج من ثري والسفر معه إلى السعوديّة.
ينادون «يا بو» ولكن ما مِن مُجيب. فتلاشى الحاضِر بين براثن الماضي. وما يرويه التاريخ من صراعات قيميّة، اجتماعيّة، ثقافيّة، دينيّة وأخلاقيّة، تعيد اليوم إنتاج ذاتها.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى