«يا مريم» لسنان أنطون.. هدم الاستعراض (مازن معروف)

 

مازن معروف

برغم تماثلها أمام الواقع المريع، وامتثالها له، فإن شخصيات رواية «يا مريم» (دار الجمل)، لا تتحرك نحو مركزية نهائية واحدة. بل تبدو كأنها تدوِّم حول محور قناعاتها الفردية. من هنا ترتسم المسافات بينها، وفي هذه المسافات يستقر التاريخ بكل ثقله ونُسَخه، حجراً غير قابل للزحزحة إلى هنا أو هناك. فالتقلبات التي شهدها التاريخ العراقي الحديث، منذ مقتلة الملك فيصل الثاني، إلى دخول القوات الأميركية وما بعدها، تمثّل مادة جدلية، تسكب عصارتها في تاريخ عائلة عراقية كلدانية مسيحية. سنان أنطون لا يراوغ الواقع بستر انتماء الشخصيات مثلاً، أو تأطيرها بكونها محض «أقلية» بشكل عام، أو دفعها إلى البوح بهواجسها فلسفياً أو رمزياً أو «أدبياً»، أو المغالاة في إيضاح تبايناتها وقناعاتها «الأرضية» و«السماوية». يختار العكس هنا: أن يحك فانوس هذا الواقع الرطب، ويجعل القارئ يشاركه شم أصناف الخوف المتفلِّت منه، وارتدادته على حياة أفراد باتوا غير «مقبولين».
جرأة أنطون تتوازن مع معطيات المشهد العراقي اليوم. غير أن مسألتين أساسيتين تلفتان الانتباه في عمله الروائي هذا. الاولى أن الاستكانة إلى الواقع لم تؤد إلى نخر أساسات العمل أدبياً أو جمالياً. فهذا الواقع، متشابك مع نفسه كجسم بعشرات الأذرع، والدخول إليه يشترط التمهل، والتخلص من أي شوائب قد تسقط وحدة العمل، والالتزام بنقطة الوصول إلى الحدث النهائي. والكاتب يستطيع أن يفرض، في مقابل المادة «المفروضة» سلفاً على تاريخه، كينونةَ الراوي المختلطة مع كينونة الشخصيتين الأساسيتين (يوسف ومها). وهو ما يصونه و«يا مريم» من الوقوع في الفخ التراجيدي المقفل. أما المسألة الثانية فتتمثل في أن أنطون تمكّن، أن يقيم توازناً رفيعاً بين كثافة مادته اجتماعياً وسياسياً وكيفية بنائها من جهة، وبين هدم لأي استعراض ثقافي أو تبريرات فلسفية أو وجودية نيئة، وتلزيمه ورشة العمل إلى لغة تحكي لتعزز منطق الخلاف وتستدل على ما تبقى من الهوية كرابط عام.
يرفع سنان أنطون إشكالية الهوية والانتماء من جذورها. بحيث أن موضوعة الذاكرة والتي قد تستوي كمسألة في حدود معينة، تُترك هنا لتتطور ببطء، وتتفاعل ضمن حدود تعاطي الكاتب مع التاريخ (كمادة لا تزال قيد القراءة، لم تفكك كلياً ولم توصف بشكل نهائي). فالذاكرة تكتشف من «حديقة بيت يوسف الخلفية» محيطها واختلافها وإرثها الثقافي الذي يضيء معتنقي هذه الذاكرة ويلفهم كأقلية بأسئلة سياسية ووجودية وطبيعية. كما تضع بين أيدينا إشكاليات تتعلق بماهية النظام السياسي ومشروعه اللازم لاحتواء كل هذه التفاوتات الاجتماعية والإثنية المختلفة في البلد الواحد. فالأفق الذي يبدو مسدوداً عند شخصية الزمن الحالي (مها، المنعتقة في معطيات الراهن)، يبدو مفتوحاً إلى الوراء عند يوسف الذي يؤثر العودة إلى دينامية التاريخ باعتبارها مقياساً، وباعتبار التاريخ في الوقت عينه، مرجعاً وتعويذة بصرية تتحرك رغماً عن الظروف السياسية القاهرة. فتظهر الرواية في تقاطعاتها مع أطياف المجتمع واختباراتها للتداعيات الديموغرافية والهجرات القسرية وشهادتها على التغيرات الدراماتيكية، واتصال حكاياها «غير المباشر» ببعض البعض أشبه بمُرَكَّب أيونات من أملاح معادن عدة، يستحيل فصل ذراتها عن بعض، وإلا فقدت بريقها وميزاتها الفيزيائية والكيميائية.
لكن الرواية (156 صفحة) تنطوي أيضاً على أسئلة تتعلق بطريقة الأدب. وتدل على أن تفحُّص الواقع بعين الرواية هو أمر مشروط بجمالية المحتوى وحذق الكاتب. فرواية سنان أنطون تقول إن التوغل في تعقيدات الواقع وإجراء عملية مسح بين التاريخ والجغرافيا والثقافة ودلالة البيئة وارتباط الإرث الديني والمعتقد بالواقع لا يتطلب مئات من الصفحات، ويمكن اختزاله فقط بالمناورة اللغوية والربط وإيجاد الطرق الوافية والذكية للسرد، بإيجاد المسوغات قبل ذلك.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى