كتب

آدا غودريتش فريير: كانت تسمّى فلسطين…

سلوى دبوق

في خضم الهجمات الإسرائيلية الشرسة على لبنان، وما صاحبها من فظائع واستهداف لقيادات المقاومة، وبعد مرور عام على بدء العدوان الدموي على غزة الذي أودى بحياة آلاف الفلسطينيين، عادت بعض الأصوات داخل الكيان العبري لتُروِّج مجدّداً لفكرة «إسرائيل الكبرى» زاعمةً أن فلسطين هي أرض «شعب الله المختار» وأنها كانت خالية من السكان قبل وصول المستوطنين الصهاينة إليها.

 

في ظل هذه الادعاءات، تبرز الحاجة الملحة إلى كشف الحقائق التاريخية التي تُفنِّد هذه المزاعم الصهيونية، وخصوصاً عندما تأتي هذه الحقائق من مصادر أجنبية، تطبيقاً لمبدأ «شهد شاهد من أهلها». في هذا السياق، تكتسب مذكرات الكاتبة الإنكليزية آدا غودريتش فريير التي مُنعت طويلاً من النشر أهميّةً خاصة. هذه المذكرات ـــــ التي صدرت في كتاب «اسمها فلسطين» (1913) الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (دار الرواق ــ ترجمة خميلة الجندي)، تُوثِّق كل جوانب الحياة في فلسطين في مطلع القرن العشرين إبان الحكم العثماني.

تُعبّر الكاتبة، التي جاءت إلى فلسطين للحج، عن انبهارها بسحر الأرض المقدسة الذي لا يمكن وصفه بالكلمات وحدها، فهو إحساس يتغلغل في الروح قبل أن يراه المرء بجوارحه. في فلسطين، كل حجر وكل زاوية يرويان قصة من قصص التاريخ، حيث تتداخل الأساطير بالواقع. من جبالها الصخرية إلى سهولها الخصبة، يحمل المكان عبق العصور الماضية، فيشعر الزائر كأنه يسير في دروب الأنبياء والقديسين، ولا سيما أنّ هذه الأرض كانت مسرحاً لأهم الأحداث التي شكلّت مصير البشرية. لا ينحصر جمال فلسطين وفقاً للكاتبة في مناظرها الطبيعية فقط، بل في الطاقة الروحية التي تنبعث من كل شبر فيها، فلكلّ مدينة وسهل وجبل قصة تنتظر أن تُروى، من القدس إلى بيت لحم، من الناصرة إلى أريحا. هذا السحر لا يمكن تفسيره بالمنطق، إنه التجربة الروحية التي تستحوذ على كل من تطأ قدماه أرض فلسطين، حيث يتلاقى الماضي بالحاضر في كل خطوة يخطوها المرء.

تتوقف الكاتبة بإعجاب عند بوابة يافا، إحدى بوابات القدس الرئيسية، حيث تتجلّى الحياة الفلسطينية بكل تنوعها وثرائها. في هذا المكان الذي يربط المدينة القديمة بالعالم الخارجي، يجتمع الفلاحون القادمون من القرى المحيطة بملابسهم التقليدية لبيع منتجاتهم الزراعية، بينما يتجوّل التجّار بين الأكشاك المتناثرة، ويعرضون سلعهم للمارة. تحت أشعة الشمس الساطعة، تسير الحياة بنمط هادئ، يشوبه صوت المؤذنين وصخب الباعة، في مشهد يعكس روحانية المكان وأصالته. يختلط في هذا المشهد رجال الدين، والبدو الذين يأتون بأغنامهم، والسكان المحليون الذين يرتادون الأسواق. هكذا، تشعّ البوابة بروح الشرق القديم، وتنعكس فيها أنماط الحياة التي لم تتغيّر منذ قرون، رغم التأثيرات الأوروبية المتزايدة.

تعرض آدا غودريتش فريير لحياة الفلسطينيين في البادية حيث يقومون برعي الأغنام ويسكنون الخيام. وتصف العادات والتقاليد البدوية في فلسطين مثل كرم الضيافة والحروب القبلية. كما تُلقي الضوء على الفروقات بين الحياة في القرى، حيث يعتمد الناس على زراعة الخضر والزيتون، وحياة المدن التي تُركِّز على التجارة والصناعة. تُقدِّم كذلك وصفاً دقيقاً للتفاعل بين الأعراق المختلفة التي تعيش في هذه المدن من عرب وأرمن وأتراك.

تتناول الكاتبة أيضاً بإسهاب الحالة الدينية في فلسطين في أوائل القرن العشرين، حيث كانت البلاد مركزاً للتعدّدية الدينية التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين واليهود. كانت الحياة اليومية متأثرة بالتقاليد الدينية كالصلاة والصوم، فالمسلمون الذين يُشكّلون غالبية يؤدون صلواتهم في المساجد والشوارع والمكاتب الحكومية. المسيحيون كانوا يعيشون في مناطق مختلفة من فلسطين، وخصوصاً في القدس وبيت لحم والناصرة، وكانوا يتبعون طوائف مختلفة كالأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية، في حين تجذب الأماكن المُقدّسة مثل كنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم الحجّاج من جميع أنحاء العالم. أما اليهود، فكانوا يحتفظون بوجودهم الديني في مناطق مثل القدس والخليل، ويمارسون شعائرهم عند الحائط الغربي. ورغم التعايش بين الديانات الثلاث، أشارت الكاتبة إلى وجود بعض التوترات حول السيطرة على الأماكن المقدسة. تشير آدا غودريتش فريير إلى تنامي النفوذ الأوروبي في فلسطين مع مطلع القرن العشرين، ما أحدث تحوّلات اجتماعية ملموسة في شتى مناحي الحياة. فقد شهدت البلاد قدوم الاجانب الذين شيّدوا المؤسسات التعليمية والصحية، مساهمين بذلك في الارتقاء بمستوى التعليم والرعاية الطبية، ولا سيما في الحواضر الكبرى كالقدس ويافا. وقد لعبت هذه المنشآت، التي كانت تديرها في الغالب الإرساليات التبشيرية، دوراً محورياً في تثقيف جيل جديد من أبناء فلسطين، فاتحةً أمامهم آفاقاً للتعلم والترقّي الاجتماعي. كما صاحب الوجود الأوروبي إدخال أنماط معيشية مستحدثة، فبدأ سكان المدن الفلسطينية في تبني بعض العادات الغربية، كارتداء الأزياء العصرية واستخدام المنتجات المستوردة. وفي الوقت ذاته، شهدت الحركة التجارية مع القارة الأوروبية نمواً ملحوظاً، ما أدى إلى ازدهار الأسواق وفتح مجالات جديدة في قطاعَي التجارة والصناعة. ومع هذه التطورات المتسارعة، برز تحدٍ جوهري يتمثل في الحفاظ على الهويّة الوطنية الفلسطينية في خضم تزايد التأثيرات الثقافية الوافدة من أوروبا.

تشير الكاتبة إلى أنّ حياة المرأة في تلك الحقبة كانت محكومة بإطار صارم من التقاليد والأعراف التي فرضت عليها حدوداً واضحة المعالم. وقد تباينت أدوار النساء وفرصهن بين البيئتين الريفية والحضرية. ففي المناطق الريفية، كانت النساء يعملن في الزراعة وتدبير شؤون المنزل، ويشاركن في الأعمال اليومية التي تدعم أسرهن اقتصادياً. أما في المدن، وخاصة بين العائلات الميسورة، فقد بدأن في الحصول على تعليم أفضل، بفضل المدارس التي أسّسها الأوروبيون، ما أتاح لهن فرصاً جديدة للتعلم والارتقاء الاجتماعي. ورغم هذا التقدّم في مجال التعليم لبعض الفتيات، إلا أنّ غالبية السيّدات، وخصوصاً في القرى، بقين غير متعلمات يمارسن أدواراً تقليدية في رعاية الأطفال وإدارة المنزل. كان المجتمع يتوقّع من المرأة أن تكون متواضعة ومطيعة لزوجها، الذي كان يضطلع بدور محوري في تحديد مكانتها الاجتماعية. أما من الناحية الدينية، فقد اتسمت مشاركة النساء في الطقوس والشعائر بمحدودية نسبية في الفضاءات العامة، فغالباً ما كنّ يؤدين الصلاة في منازلهن، في حين كانت المساجد مُخصّصة بشكل أكبر للرجال. تعترف الكاتبة أنّ فلسطين آنذاك كانت تشهد تحوّلات مهمة، إذ بدأت الروح الوطنية الفلسطينية الصاعدة في مواجهة الحركة الصهيونية المتنامية. بعد إعلان الدستور التركي في عام 1908، بدأ شعور بالاستقلال والتحرّر ينمو بين سكان فلسطين، وظهر توجه قوي نحو الاعتماد على الذات في مجالات التعليم والصحة، ما أدى إلى إنشاء مؤسسات تعليمية فلسطينية جديدة، إضافة إلى الاهتمام بمسألة الحفاظ على الهويّة الوطنية والتراث الثقافي. توضّح آدا غودريتش فريير بأنّ اليهود استغلوا هذا التحوّل السياسي لمصلحتهم واستطاعوا تبنّي «الوطنية التركية» لتحقيق مصالحهم الخاصة. وقد حصل عدد من المهاجرين اليهود، وخصوصاً من روسيا، على الجنسية التركية، بينما ارتدى آخرون الطربوش، وهو رمز للمواطنة التركية، ما مكّنهم من التقدُّم في تحقيق أهدافهم في فلسطين تحت مظهر وطني.

الكتاب غنيّ جدّاً بالصور الفوتوغرافية التي توثّق الحياة اليومية للعربي على أرض فلسطين وتدحض الأكاذيب الصهيونية حول أنّ فلسطين كانت غير مأهولة وأشبه بصحراء قاحلة قبل قدوم العصابات المجرمة إليها. على العكس، تُمعن الكاتبة في وصف المستشفيات والمدارس والمعاهد والمنازل القديمة والحديثة ومعمارها العربي الأصيل والكنائس والمساجد التي وُضعت أول أحجارها على أرض فلسطين قبل قرون من وصول الصهاينة. إنها شهادة أوروبية بامتياز على عروبة فلسطين… بلاد كانت تخطو نحو نهضة واعدة، لولا أن اغتالتها يد النكبة الغادرة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى