آمال البابا تقارب أزمة العائلة بعينَي طفلة
عندما عزمتُ على قراءة رواية «بروتوكول» لآمال البابا (دار الساقي) لم يكن في نيّتي الكتابة عنها. كان ذلك فقط بدافع الفضول وربّما للاطّلاع على ما آلتْ إليه الكتابة الروائيّة لدى الجيل الجديد، الناشئ. ولكن ما أنْ أنهيتُ القراءة حتّى وجدتني أمام رغبة في الكتابة، وربّما أمام ضرورتها، كيْ أشير لا فقط إلى ولادة روائيّة شابّة مميّزة، بل إلى ولادة رواية جديدة بما تعنيه الرواية من بنية فنيّة ونسق سردي وصوت لغوي أو كلامي.
الحكايةُ بسيطة تتلخّص بما تعانيه طفلةٌ، بين السابعة والعاشرة من عمرها، من وضعٍ عائلي يسوده الشجار الدائم بين الوالديْن لأكثر من سبب، ويصعب علينا، نحن القراّء، تحديد سببٍ رئيس بين هذه الأسباب. ولا يعود ذلك إلى علّة في الرواية، أو إلى المقدرة السرديّة، بل إلى عامل فنّي من عوامل إنتاج المعنى العميق لهذه الرواية، المعنى الذي، كما سنرى، يتجاوز الخاصّ إلى العامّ. وهو بصفته هذه ينمُّ عن مهارة لافتة لدى الكاتبة في صياغة عملها الروائي الأول. كيف؟
في القسم الأول من الرواية، تحكي الطفلة، ومن خلفها الراوية التي كانت تلك الطفلة، عن أمّها التي تشكو باستمرار من الحياة التي تعيشها في بيتٍ أثاثُه قديم ومع زوج شبه غائب عن هموم البيت، وصامت عن زوجة لا تلد له إلا الإناث. الطفلة التي لا ترى، بحكم براءة سنها، إلاّ ظاهر الحواادث، تميل إلى إنصاف والدها مستنكرةً ما يصْدر عن أمِّها.
ينمو السرد بهدوء وسلاسة في هذا الاتجاه، وبلغة متّسقة مع مستوى الوعي لدى الطفلة، كما مع المستوى الاجتماعي لهذه العائلة ومحيطها. لغة بسيطة لها بلاغة المعنى، وليس بلاغة اللفظ، بما تعنيه هذه البلاغة من تشبيه واستعارة وصور لا تتلاءم ومخيّلة الطفلة، أو مستوى وعيها وبيئتها التي تعيش فيها.
نقرأ فيحضر البيتُ من خلال ما تعيشه الطفلة وتسمعه وتراه، كما تحضر أجواء العلاقات العائليّة عبر دهشتها واستغرابها وأسئلتها الصامتة. تسمع الطفلةُ أمَّها تشكو من قدم أثاث البيت الذي يحرص عليه والدها في حين تراه أمّها علامةً على فقر أصحابه، وسبباً لإهانتهم، ولشعورهم بالمذلّة، ولإبعاد الخطّاب عن صبايا البيت. ترى الطفلة أمَّها تمسح الأرض «بالشرطوطة» كلَّ يوم، بل أحياناً أكثر من مرَّة في النهار، تصدّق أنَّ أمّها عصبيّة بخاصّة حين تسمعها تصرخ في وجه والدها، أو تغادر السيارة وتدعهم يتابعون مشوارهم لتعود هي إلى البيت وتغلق الأبواب بالمفاتيح، بينما يبقى والدها هادئاً صامتاً لا يوجه كلمة لوم لأمها.
الفتاة الصغيرة هذه لا تفهم معنى ما يجري، ولا تعبّر عن موقفٍ واضح، ولئن كانت لا تنتصر لوالدها فهي لا تؤثّمه. كذلك، فهي وإنْ كانت تلوم أمَّها بصمت، فإنّها لا تكرهها. غير أنَّها تتساءل، تساؤل الجاهل، عن هذه المفارقة بين ما تتعلّمه في المدرسة عن الأم الحنون والحبّ الذي يسود بين أفراد العائلة، وبين ما تشهده وتعانيه في بيتهم. كأنّ الطفلة، ومن خلفها الكاتبة، تشير بهذا التساؤل إلى مسؤوليّة نظم التربية والتعليم، أو إلى تكوين وعي سطحي قائم على مفاهيم جاهزة لا تعالج حقيقة العلاقات المجتمعيّة السائدة.
يصل بنا السرد، في هذ القسم من الرواية، إلى الاقتناع برؤية الطفلة وبما تفهمه وترويه عن أجواء البيت والشّجار بين والديْها، وذلك من منظور لا يميل إلى الوقوف ضدّ الأب/الذكر. وقد يجعلنا ذلك نفّكر بأنّ الكاتبة، الكامنة خلف الراوية، تناهض المنظور الذي ينتصر للمرأة/الأنثى ضدّ الرجل/الذكر والذي يسود في معظم الروايات التي تكتبها المرأة.
لكنَّ مثل هذا التفكير، الذي يجد مبرّره في مهادنة الطفلة والدها، كما في التعبير عن معاناتها من تصرّفات أمِّها، لا يلبث أنْ يتخلخل تدريجيّاً مشيرًا بذلك إلى تحوِّلٍ في المنظور الروائي، وذلك عبر أحداث طارئة صادمة تعيشها الطفلة، وتقودها إلى التساؤل عن معنى ما كانت تعتبره حقيقيّاً في سلوك والدها تجاه أمها، أي صمته وعدم لومه لها، أي ممّا يمكن تفسيره بتعاطف هذا الأب مع هذه الأم، وعدم تحميلها مسؤوليّة ما يعانيه البيت والأولاد.
نعم، هو تحوّلٌ درامي وليس مجرّد لعب فنّي قائم على مستوى الزمن ومنوط بالتذكّر. أو منوط بحدثٍ طارىء هو في هذه الرواية إصابة الأمّ بمرض سرطان الثدي. ليس مرض الأمّ ومعاناتها والشفقة بالتالي عليها هو سبب التحوّل الدرامي في الرواية.< بل هو وعي الطفلة، أو الوعي الطفولي الذي يرى ويعجز عن تفسير ما يرى. إنما يطرح أسئلتَه ببراءة تاركاً لنا، نحن القرّاء، أن نعرف. هكذا حين نقرأ المرويَّ بوعي معرفي، ندرك أنَّ السبب هو تربيةٌ لفظيّة قاصرة، ووعيٌ اجتاعي سائد مرهون بموروثٍ من التقاليد البالية تتمثَّل في الرواية بما كانت تسمعه الطفلة وتراه وتعيشه وتعاني، ببراءة، منه. مثل عدم زواج الأمّ من ربيع الذي كانت تحبِّه لأنَّ والدة ربيع ربطت هذا الزواج بزواج ابنتها العانس، ومثل الكراهيّة القائمة بين الجدّة (والدة الأب) وأمّ الطفلة. هذه الكراهيّة التي تفاقمت بعد أن نقلتْ هذه الطفلةُ، وببراءة، قولَ أمّها لأبيها بأنّها لا تحب أمَّه.
ثمّة أكثر من مثال، في هذه الرواية، يشير إلى منظورٍ يستند إلى وعي غير جاهز، أو غير مسبق، بل يتكوّن من أحداثٍ تعيشها الطفلة، فيما نحن نعاينها بأحساسٍ يتوافق ووعي الطفلة، كما يتوافق والبراءة التي يتّسم بها هذا الوعي. نعيش هذا التحوّل الدرامي الذي تنسجه الروايةُ بهدوء ينطوي على مأساة هي أبعد، بل وأعمق من موت أمٍ بالسرطان. فالأم «لم تمت بسبب السرطان»، كما تقول لنا الراوية في بداية الرواية، بل بسبب ما سترويه عن واقع الحياة العائليّة الاجتماعيّة الذي عاشته، والذي يحيل على موروثٍ من العادات والتقاليد، وعلى نظام تربوي الكلُّ فيه ضحيّة وإن بنسبٍ مختلفة.
فالأب الذي ادّعى معرفةً بالداء والدواء وراح يُكره هذه الأم المريضة على الإيمان بوصفاته التي أفضت بها إلى الهزال والموت معلِّلاً موتها بقضاء الله وقدره، هو الذي بعد موت الأمّ نجده يستأثر بالمال الذي ادخرته، وهو الذي يشتري البيت الذي كانت تحلم به، لتسكن فيه المرأة التي تزوّجها. هذا الأب كان بأفعاله هذه يتصرّف بصفته الرجل/الذكر، رب البيت وسيده الذي تُحلّل له الشريعة مالا تسمح به للمرأة.
معاناة المعيش الاجتماعي، التربية السطحيّة/الببغائيّة، التقاليد والعادات المتمركزة حول أنا تعادي الآخر وتستعلي بجهلها عليه، الذكورة وموروثها الذي يمنح الرجل حقَّ الوصاية، بل والتسلّط، على المرأة…
كلّ هذا الذي تعيشه الطفلة، هو الذي تُشكِّلُ معرفةُ حقيقته التحوّلَ في وعي الطفلة، الطفلة ذاتها التي صارت، في ما بعد، هي الراوية.
وفي الخلاصة، يمكن القول إنّ هذه الرواية تقدِّم نمطاً سرديّاً قوامُه التحوّل الدرامي (من الجهل إلى المعرفة) وليس العقدة وحلّها، كما تعتمد أسلوباً سلساً يبتعد عن تكسير الزمن السردي الذي اتسمت به الرواية العربيّة الحداثيّة. نمط يميل إلى حواريّةٍ تتّسم بالبراءة، وتتمركز حول الذات بما هي ذات مجتمعيّة أبعدُ مِنَ الـ أنا وفرديّتها.
صحيفة الحياة اللندنية