آه .. يا أبي : عشتُ أكثرَ منك!

لم يكن الطريق الزراعي بين أشجار الزيتون في بساتين العدوي يعرف أنك لن تعود منه. لو كان يعرف لمنعك من أن تتابع الطريق، كان قال لك : لاتذهب.. لاتذهب .. كان حذّرك:

هذا يعني أنك سترحل باكرا. أو ربما كان قال لك: احترس، فالطريق الذي ستسلكه دام.. دام!

كانت أشجار الزيتون شبّكت يديها لتصنع حاجزا يمنعك من الذهاب، أو ربما قالت لك:

ــ احترس، فالطريق الذي ستسلكه موحش!

ولو أن عرافة شاهدتك، وأنت تمشي على الطريق الزراعي تحلم بوطن جميل وخبز ناضج وأبناءَ يتعلمون في مدارس جميلة، كانت قالت لك : لاتذهب، فعند منعطف الطريق ستموت وحيدا وأنت تتوجع!

كانت الساعة قد قاربت الحادية عشر صباحا، عندما أبلغوني أن عليَّ استلام جثتك من المستشفى الفرنسي في باب توما..

لايهم يا أبي .. لايهم أن تموت بهذه السرعة، كنت في منتصف الخمسينات من عمرك، وكان جدّي (أبوك) قد عاش مائة سنة وأكثر، أي أنه كان بإمكانك أن تحلم وتحلم إلى أن تصبحَ عجوزا أو ربما رجلا طاعنا في السن منتصب القامة!

ليس جديدا أن يموت الناس دهسا أو قتلا أو اغتيالا أو بقذيفة هاون .. الموتُ قدرُنا جميعا، ليس جديدا أن تمضي السيارات في الطرقات الواسعة بسرعة جنونية.. ولكن كان صعبا عليّ أن أقوم أنا باستلام أشيائك التي تركتها قبل أن ترحل ..لم أكن أعرف أن المسألة مؤلمة على هذا النحو!

وقعتُ محضرَ الاستلام ..

كان ذلك في التاسع من شباط ، وكان صباحا باردا ..باردا.. كان مكتوبا على المحضر عبارات لم أفهم معناها وقتها: أنا الموقع أدناه .. .. جثةُ أبي .. الأشياء التي بحوزته : قبعة صوفية، ليرتان ونصف، هوية عامل، وعلاّقة مفاتيح!

أتعرف لماذا أكتب لكَ الآن، أي بعد نحو أربعين عاما على وفاتك ؟!

الناس في بلدي، يموتون وهم أفقر منك.. يا أبي!

الناس في بلدي، ليس هناك من يوقع محضر استلامهم عندما يموتون ..

الناس في بلدتي ليس لديهم قبعات صوفية لحجب برد الشتاء..

آه يا أبي ، كم هو صعب أن يموت الانسان وحيدا، وأنت متَّ وحيدا..

وقعتُ وصل الاستلام، وتركتُك ومشيت ..

لاتؤاخذني، فقد هاجمني خاطر غريب: أنا أريد أبي حيا. لا أريده ميتا!

وعندما عدتُ إلى البيت وجدتك هناك مسجى : نظيفا، جميلا، حليق الذقن، أغمضتَ عينيك بألم، فقد كانت سرعة السيارة كبيرة جدا. وكان جسدك نحيلا لايقدر على صد هجوم الموت بهذه الطريقة !

صدقني. أنا الآن بحاجة إليك. صحيح أنني عشتُ أكثرَ منك، ولو أنك تأتي الآن كنتَ ستجدني أكبر منك . أكبر من أبي . تصور!

لكنك لن تأتي .. أعرف ذلك . أعرف أن أبي لن يحضرَ عيد الأب الذي يحتفلون به هذه الأيام، ومع ذلك سأحتفل بك أبا أصغر مني : سأشتري زنبقا بلديا يشبه الزنبق الذي كنت تزرعه في بيتنا، وأضعه في إناء ماء من زجاج شفاف، وأغني بحزن لمن سيوقع على محاضر استلامنا القادمة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى