أبعاد التحرك التركي في القارة السمراء وتوقيته

تشكّل العلاقة التركية- الأفريقية جانباً جديداً ومهماً في السياسة الخارجية التركية، ويعد اهتمام أنقرة الخاص ونشاطها البارز في الصومال تحديداً، مؤشراً إلى رغبتها في أن تصبح لاعباً نشطاً في القارة الأفريقية عبر الجهود الحكومية وغير الحكومية.

ويرى مراقبون أن الحضور التركي في الصومال يهدف إلى إظهار الزعامة التركية قوة عظمى، عسكرية واقتصادية، كما أن اهتمامها بالصومال، جاء إدراكاً منها لأهمية الصومال الجيوستراتيجية، بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يربط بين القارات، وباعتبارها ممراً مهماً للطاقة في العالم، إضافة إلى ثروات كثيرة يمتلكها الصومال في ظاهر الأرض وباطنها.

تمثّل المساعدات والتجارة أهم أسس التعاون التركي- الأفريقي، وأشار محللون الى أن هناك بعداً استراتيجياً لنقل العلاقات بين أفريقيا وتركيا من التعاون والتبادل، إلى مستوى التكامل وتبادل المصالح، بخاصة أن تركيا لديها إمكانات لزيادة الاستثمار في الخارج من خلال اقتصادها الديناميكي وسعة حجم سوقها الداخلية، بالإضافة إلى قدراتها الصناعية العالية، والقوى البشرية المؤهلة التي تمتلكها، فضلاً عن أن السوق الأفريقية تعد سوقاً واسعة للمنتجات التركية، في المقابل، يمكن أن تؤدي دول أفريقيا دوراً مهماً في تأمين واردات تركيا، وخصوصاً في قطاعي الزراعة والمعادن، في مقابل استفادتها من الخبرات والتجارب التي تمتلكها تركيا، وتقاسمها على أساس النفع المشترك للطرفين.

ويعتقد أن كل هذه الخطوات من جانب الأتراك تأتي ضمن استراتيجية تركية، تشمل القارة الأفريقية في خضم سباق محموم حول أفريقيا بين العملاقين الصيني والاميركي، ويبدو أن تركيا تريد حصتها في أفريقيا، قوة عظمى صاعدة، وبذلك يكون الصومال أحد مداخلها إلى عالم أفريقيا.

ويمكن تقسيم تطوّر السياسة الخارجية التركية تجاه القارة الأفريقية، الى ثلاث مراحل، الأولى بدأت في 1998 عندما تبنت تركيا ما أطلق عليه الخطة الأفريقية، واستمرت حتى عام 2005، الذي أعلنت أنه عام أفريقيا، وقد عملت تركيا خلال هذه الفترة على إرساء الدواعم الديبلوماسية، وإعداد منهجية في التعامل مع القارة السمراء.

المرحلة الثانية خلال الفترة بين عامَي 2005 و2011، حيث عملت تركيا على تقوية علاقاتها بأفريقيا على المستويات كافة، وحصلت على منصب مراقب في الاتحاد الأفريقي عام 2005، ثم أصبحت حليفاً استراتيجياً في 2008، وانضمت الى البنك الأفريقي للتنمية، كما عملت على تقوية علاقاتها بهيئة المنظمات الحـكومية الدولية للتنــمية في شرق أفريقيا، والتجمع الاقتصادي لدول غرب أفريقيا، ما ساهم في إعطاء هذه العلاقة شكلاً مؤسسياً، كذلك، عقد المؤتمر الأفريقي التركي عام 2008، وزادت حركة التجارة بين الطرفين في هذه الفترة.

أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت في عام 2011 مع الاهتمام التركي بالوضع في الصومال، ودور تركيا في إلقاء الضوء على ما يعانيه الشعب الصومالي، إذ استضافت مدينة اسطنبول المؤتمر الصومالي الثاني خلال عام 2012، تحت عنوان «تحديد المستقبل الصومالي أهداف عام 2015»، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة وبمشاركة 57 دولة، و11 مؤسسة إقليمية ودولية، ونوقشت خلاله قضايا ملحّة، مثل المياه والطاقة والطرق والنزعات الانفصالية. وتولي أنقرة في إطار رغبتها في أن تصبح لاعباً سياسياً في أفريقيا، حلّ المشكلات المزمنة في القارة الأفريقية اهتماماً كبيراً، واستدعى التوجّه التركي الجديد نحو أفريقيا توسعاً في الحضور الديبلوماسي التركي، فتمت زيادة عدد السفارات التركية في القارة من 12 عام 2002 الى 39 سفارة عام 2015.

وتراهن تركيا في استراتيجيتها الاقتصادية مع أفريقيا، على غياب العقد التاريخية التي تعكّر علاقات شعوب القارة مع باقي الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، وعلى كون قسم من سكان هذه القارة من المسلمين، لإقناع الدول الأفريقية بضرورة الانفتاح الاقتصادي البيني، في مواجهة تكتلات الدول الكبرى.كان هدف زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الصومال مؤخراً، ضمن جولة أفريقية، ضخ استثمارات جديدة في السوق الأفريقية، وتقييم انفتاح أنقرة على القارة، كما أن الصومال يُعدّ في صميم هذه الأهداف.

ولا يخفى أن تركيا تواجه عقبات جدية أمام انضمامها للاتحاد الأوروبي، وإدراكاً من أنقرة لهذا، فإنها تسعى، بجدية، إلى الانفتاح الاقتصادي والتجاري والسياسي على جميع دول القارة السمراء، حيث تشكل العلاقة التركية الأفريقية جانباً جديداً ومهماً في السياسة الخارجية التركية.

وتقوم أنقرة بمناورة ذكية مع الاتحاد الأوروبي، بإيجاد بدائل اقتصادية، تمكنها من اختراق أسواق أفريقيا التي تستغلها أوروبا من دون جدوى لشعوبها، وهي رسالة موجهة، مفادها بأن تركيا قادرة على طرح نفسها بديلاً مقبولاً، بل ربما أفضل من الدول التي تعاملت مع الشعوب الأفريقية بعقلية استعمارية.ولتركيا أهداف استراتيجية، تتمثل بالدفاع عن مصالحها في المنطقة، لتتجاوز المسرح الإقليمي، وإيجاد مجال حيوي جديد لطاقاتها وإمكاناتها الإنتاجية والفنية، على نحو يؤدي إلى مكاسب اقتصادية في زيادة التبادل التجاري، وإيجاد سوق واسعة، فتركيا إحدى الدول الثلاث النشطة في القارة الأفريقية، مع الصين والهند.

ويعد توقيت التحرك التركي في افريقيا مهماً للغاية، فبالإضافة لما سبق ذكره، جاء في الفترة التي غاب فيه التأثير العربي عن القارة، وخصوصاً القسم المسلم منها، بسبب الأزمات التي تعيشها دول عربية عديدة، في مقدمتها مصر، وبذلك أصبحت تركيا بالنسبة للقارة «مركز جذب» جديداً.

كما يجب عدم إغفال توقيت لعب روسيا، ورقة الانفصالية الكردية، ليس فقط لإبعاد اليد التركية عن سورية، وانما لضرب تركيا في عقر دارها، مع العلم ان الهاجس الانفصالي، يقلق انقرة وطهران معاً، وتداعياته قد لا تتوقف عندهما، وانما ربما تطال موسكو نفسها.

وكان القرن الذهبي بدوله، إثيوبيا والصومال وإريتريا وجيبوتي، ساحة لصراع قوى عالمية على الدوام، نظراً لأهميته الاستراتيجية ووقوعه على الطرق العالمية للبترول.

ومدت إسرائيل نفوذها في القارة السمراء، مستغلة كره السكان المحليين القوى المستعمرة القديمة، وكانت دول أفريقية كثيرة في العقود الأخيرة، تشتري أسلحة من إسرائيل، ويدرّب جيوشها وأجهزة الاستخبارات فيها خبراء إسرائيليون.

ولا شك في أن التحديات الكثيرة التي تواجهها إسرائيل وايران والدول الأخرى في أفريقيا، قد تفتح المجال واسعاً أمام الأتراك، إذ إن نمط الإسلام التركي المعتدل الذي يتواءم مع تقاليد الديموقراطية الغربية، ونمط اقتصاد السوق يقدم نموذجاً يحتذى به لمسلمي أفريقيا، وعليه، فإن مدارس ومساجد كثيرة يقوم على إدارتها الأتراك في مختلف أنحاء أفريقيا لا تثير أي مخاوف، على العكس من النشاط الايراني.

يبقى القول ان تركيا بعد إنــشائها قاعدة عســكرية في قطر، تنوي إقــامة قاعدة عســكرية اخرى لها في الصومال، تكــون قريبة من خليج عدن، وفق ما ذكره موقــع خبر التركي، وفي الســـياق نفــسه دعا وزير الدفاع الليتواني غوراس أوليكاس، الجيش التركي إلى أن يكون في بلاده لحمايتها من السياسات الروسية العدائية، وعبر عن ذلك بالقول: سنكون ســعداء برؤية الجيش التركي في بلادنا، ضمن إطار قوات حلف الشمال الأطلسي، للتصدي للسياسات الروسية العدائية، ولا يمكن النظر الى كل هذه التحركات، الا في إطار تعزيز وجود انقرة في الشرق الأوسط وافريقيا، لتعكس بذلك ملامح الشرق الأوسط الكبير.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى