أبعاد تفاقم أزمة المياه في حوض النيل (هانيء رسلان)
هانيء رسلان*
منذ أن انفجر الخلاف حول الاتفاقية الإطارية لمبادرة حوض النيل، وتوقيع عدد من دول المنابع بشكل منفرد اتفاقية عنتيبي في مايو 2010، أصبحت أزمة مياه النيل أحد الشواغل الرئيسية في مصر، ليس فقط لأجهزة الدولة ومؤسساتها أو للمهتمين من المتخصصين والمتابعين، بل تجاوزت ذلك إلي الرأي العام المصري، بمختلف فئاته. فمن المعروف أن النيل بالنسبة لمصر هو مرادف للحياة ذاتها.. عاش المصريون على ضفافه منذ فجر التاريخ، ووصل إحساسهم بأهميته وضرورته القصوى لحضارتهم إلي أن قدسه الفراعنة في بعض المراحل، وجعلوا منه إلها وسموه "حابي"، وكانت تقدم له القرابين في عيد وفاء النيل. وعندما زار هيرودوت مصر، أدرك هذا الارتباط الأزلي العميق، وأطلق مقولته الشهيرة "مصر هبة النيل".
والنيل بالنسبة لمصر ليس فقط شريانا للحياة ومرادفا للتنفس، بل هو أيضا جزء من الوجدان العميق لأبناء هذا الشعب على مر العصور، تغني به الشعراء، ودبُجت فيه القصائد، باعتباره واهب الحياة، وسر الوجود. وتبقي قصيدة شوقي معلما في هذا المجال حين تغني بالنيل، وعطائه الجزيل، وفيضه الزاخر بقصيدته الخالدة التي يقول في مطلعها:
من أي عهد في القرى تتدفق وبأي كف في المدائن تُغدق
غير أن موضوع أزمة مياه النيل، رغم أهميته القصوى، ظل يلفه الكثير من الغموض، حتى انفجرت الأزمة -إثر انهيار المفاوضات في مؤتمر شرم الشيخ في أبريل 2010- بعد أن كانت قد بدأت في الظهور إلي العلن في مؤتمري كينشاسا في مايو 2009، والإسكندرية في يوليو 2009، رغم أن البوادر الأولي للخلاف ظهرت في وقت مبكر للغاية، حين أعلنت برلمانات كل من كينيا، وأوغندا، وتنزانيا في أواخر عام 2003 عدم الاعتراف باتفاقية .1929
وقد ظهر لاحقا أن هناك قضايا وحقوقا مفصلية لمصر كانت محل رفض من عدد من دول المنابع طوال الوقت، وأن استراتيجية التفاوض أو التعامل مع هذه الخلافات لم تكن في مسارها السليم، إذ إنها أدت في نهاية المطاف إلي إصرار عدد من دول المنابع على أن الوقت قد نفد أمام ما تراه هذه الدول نوعا من الحيل والدفوع المصرية التي تهدف إلي كسب الوقت، وأنها سوف تتجه إلي التوقيع المنفرد.
وهذا ما حدث بالفعل، حين وقعت أربع دول هي إثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، في 14 مايو 2010، بعد مشاورات مكثفة جرت في مدينة عنتيبي الأوغندية، ثم سرعان ما لحقت بها كينيا بعد ذلك بوقت وجيز، لتجد مصر نفسها في مواجهة مفتوحة بشأن قضية من أخطر القضايا التي تتصل بشكل مباشر بأمنها القومي، وقدرتها على توفير الوسائل والإمكانيات اللأزمة للاستمرار في عملية التنمية، وتوفير سبل العيش لأبنائها، الأمر الذي قد يضطرها إلي إعادة صياغة كثير من مناحي الحياة فيها.
لقد أدي ذلك كله إلي إثارة نوع من الدهشة والاستغراب المصحوب بالقلق لدي الرأي العام المصري ووسائل الإعلام المختلفة، حيث كانت هذه التطورات مفاجئة بالنسبة له، وغير مفهومة، في سياق التصريحات المطمئنة التي عاش المصريون في ظلها لسنوات، الأمر الذي ترتب عليه إحداث ردات فعل تتسم في كثير من الأحيان بالتسرع والاندفاع.
وأشارت بعض الأقلام إلي أحاديث عن الحرب بشكل أو بآخر، ولجأ البعض الآخر إلي التهوين من شأن الأزمة أو ما قد يترتب عليها. وأصبحت قضية المياه واحدا من الموضوعات الجاذبة لوسائل الإعلام، بحثا عن المعلومات والتحليلات، في محاولة لاستكشاف الآفاق المحتملة لهذه التطورات.
وغني عن القول إن بعض التغطيات الإعلامية اتسمت بالميل إلى الإثارة، باعتبار أن أزمة المياه أصبحت واحدة من قضايا الرأي العام التي تحظي بالمتابعة اللصيقة، الأمر الذي كانت تتابعه الدول الإفريقية المعنية، وتراه تأكيدا لما تحاول أن تسوق له من أن هناك استعلاء مصريا، وروحا أنانية، وأن مصر تري النيل نهرا مصريا، ولا حق لأحد آخر فيه، وهو أمر بطبيعة الحال يخالف المواقف المصرية داخل قاعات التفاوض، ومجهودات التعاون التي بذلتها مصر طوال عقود متصلة، ولكنها تداعيات سياسة الغموض والإخفاء، ومحاولة الادعاء بأن كل الأمور تسير على ما يرام.
ومن ناحية أخرى، حملت أزمة الخلاف حول نصوص الاتفاقية الإطارية وكيفية والطريقة التي تعاملت بها مجموعة الدول التي وقعت اتفاقية عنتيبي، مؤشرات وإشارات أخري كثيرة إلى أن مكانة مصر وثقلها الإقليمي في حالة تراجع كبير. وقد ساد الإحساس لدي قطاع كبير من المهتمين والمتابعين بأن الأزمة ليست مقتصرة على مطالبات من دول المنابع بشأن احتياجاتها التنموية، وأن الأوضاع الحالية للأزمة تبين أن أبعاد الخلاف تتخطي الجوانب الفنية أو المطالب التنموية إلى أبعاد أخري، تتصل بقضايا السياسة، والتاريخ، والسياسات والطموحات المرتبطة بتفاعلات وأوضاع إقليمية، وأخرى دولية، وأنه ربما تكون هناك أطراف خارجية تشجع دول المنابع وتحرضها على هذه المواقف المتصلبة التي بدا لبعض الوقت أنها غير عملية، وأنها لا تستهدف احتياجات تنموية فقط، بل تتوخي أيضا تحقيق أهداف أخري ذات طابع سياسي واستراتيجي بالنسبة لتصورات وطموحات بعض القادة في هذه الدول، خاصة أولئك الذين تم تعهدهم بالرعاية الأمريكية، مثل ميليس زيناوي، ويوري موسيفيني.
يضاف إلى ذلك المتغير الجديد المتمثل في انفصال جنوب السودان وتحوله إلى دولة مستقلة، مما يعني أن هناك الكثير من التعقيدات التي سوف تواجه مشروعات استقطاب الفواقد التي كانت تعول عليها مصر في الحصول على كميات إضافية من المياه، تعينها على سد الفجوة المتزايدة في احتياجاتها.وعقب التغيرات التي حدثت، إثر ثورة 25 يناير، والانشغال المصري بالتفاعلات الهادفة إلى بناء نظام سياسي جديد، قامت دولة سادسة من دول المنابع، هي بوروندي، بتوقيع اتفاقية عنتيبي، الأمر الذي سوف يقود إلى دخولها حيز التنفيذ، وقد تبع ذلك إعلان إثيويبا عن البدء الفعلي في إنشاء سد النهضة في أبريل 2011 المقرر له أن ينتهي في عام .2015 ومن ثم، فقد أصبح واضحا أن موقف مصر فيما يتعلق بقضايا المياه يزداد تعقيدا.
وفي الوقت نفسه، أخذ التناول المصري، على المستويين الإعلامي والشعبي، لقضايا أزمة المياه في حوض النيل يزداد اضطرابا، وأصبح هناك نوع من التضارب في المواقف والمعلومات، نتيجة عدم وضوح أبعاد الأزمة منذ البدايه، وأيضا للتوجه الطبيعي الرافض لكل ممارسات النظام السابق، والسعي إلى تعداد أخطائه ومناحي تقصيره. ورغم صحة هذا الحكم من الناحية الإجمالية، فإنه لم تكن هناك التفرقة الواجبة بين تحميل الأخطاء لنظام مبارك، والتفريط في حقوق مصر التاريخية، وقدرتها على البقاء.
فالقول إن وزر أزمة مياه النيل يقع على عاتق النظام السابق بسبب تقصيره إزاء القارة الإفريقية بشكل عام، ودول حوض النيل بشكل خاص، رغم أنه قول صحيح في منطوقه العام، فإن خطورته التي لم ينتبه لها الكثيرون هي أنه يتجاهل كل العوامل والمواقف الخاصة ببعض دول المنابع، ويحمل في طياته من الناحية الأخرى التسليم بصحة مواقف مجموعة دول عنتيبي التي ترفض الاعتراف بمبدأ الإخطار المسبق -وهو أحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي- أو حقوق مصر التاريخية، بما يحمل أخطارا عديدة تحمل إمكانية التقليل من كمية المياه التي تصل إلينا حاليا، وهي 55.5 مليار متر مكعب، ومن الممكن أن تؤثر أيضا في قدرة كل من السد العالي وسد أسوان على توليد الكهرباء.
في ظل هذه الظروف والمعطيات، أصبح من الواضح أننا مقبلون على صراع طويل سوف يستغرق وقتا وجهدا، ويحتاج إلى حشد طاقات الدولة وراء أهداف محددة تنطلق من رؤية استراتيجية واضحة، بما في ذلك الأدوات والوسائل المناسبة لتنفيذ هذه الرؤية. ومن المعروف أن الخطوة الأولي تتمثل في أن نعرف أين نقف الآن، وما هي التهديدات المحتملة، وما هي البدائل المتوافرة لمواجهتها، أو لتجاوزها، أو حتي التعايش معها.
وفي الوقت الحالي، ورغم إطالة المرحلة الانتقالية في مصر بعد ثورة يناير 2011، وما يرتبط بذلك من خلافات وصراعات سياسية تشغل الداخل المصري وتستهلك قواه، فإن أزمة المياه في حوض النيل تظل شأنا بالغ الأهمية. ويمكن القول، دون الدخول في الكثير من المقدمات، إن أزمة قضايا مياه النيل بالنسبة لمصر تنقسم إلى محورين، أولهما يتعلق بالإطار القانوني لمبادرة حوض النيل المشتركة، المعروفة إعلاميا باسم اتفاقية عنتيبي. أما الآخر، فيتعلق بالسدود الإثيوبية، وبشكل خاص سد النهضة.
وفي هذا الإطار، يتناول هذا الملف العديد من الموضوعات التي حرصنا على أن تغطي زوايا وجوانب مختلفة من أزمة المياه، سواء فيما يتعلق بالوضع القانوني لنهر النيل، أو الأمن المائي المصري، كرؤية تحليلية، أو اتفاقية عنتيبي وما يرتبط بها من جوانب مختلفة، وقضية السدود الإثيوبية، وزيادة الإدراك العام بأهمية التعاون، ومبادرات القوي المدنية المصرية في هذا المجال، فضلا عن إلقاء الضوء على أبعاد المتغيرات السياسية في حوض النيل، وسؤال التدخل الدولي في حوض النيل والأمن القومي المصري.
غير أنه لا ينبغي أن نختم هذا التقديم دون الإشارة إلى عدد من الملاحظات التي نري أنها يجب أن توضع في الحسبان عند النظر في المعطيات العامة لأزمة مياه النيل ومساراتها:
❊ إن الطبيعة الحاكمة للأزمة الحالية ذات أبعاد سياسية واستراتيجية، وليست تنموية أو فنية فقط، كما تسعي بعض الدول الاخري للتروج لذلك، ومن ثم فإن المعالجة يجب أن تسير في الاتجاه نفسه.
❊ إن جوهر الأزمة الحالية هو السعي لتغيير القواعد الحاكمة لتوزيع المياه على حساب مصر، وهذا أمر ليس من السهل تحقيقه، ما لم تقم مصر بتوقيع اتفاقية عنتيبي.
❊ ينبغي التوضيح والتركيز على أن مطالبات مصر باحترام مبدأ الإخطار المسبق لا تمثل نوعا من الهيمنة، أو السعي إلى السيطرة، أو التحكم، كما تسعي بعض الأطراف -بشكل حثيث- لتكريس هذه النظرة، حيث إن هذا أمر محل اتفاق دولي في كل أحواض الأنهار في العالم. فالمياه ملك مشترك لكل دول الحوض، وليس لدول المنابع دون دول الممر أو المصب.
❊ يجب التوضيح والتركيز على أن مصر تسعي للتعاون دائما، ولا تقف حجر عثرة أمام تنمية أي دولة في المنابع، أو تلبية احتياجاتها التنموية، بل تبحث عن الحلول الوسط، وترغب في التوافق والتعاون، وكذلك المساعدة ما أمكن، سواء في قضايا المياه، أو الاستثمارات، أو التجارة المتبادلة، أو المساعدات الفنية أو التنموية.
❊ ينبغي في النهاية أن نؤكد أيضا أن ما تحصل عليه مصر من المياه هو حق لها، وليس منحة من أحد، لأنه هبة من الله منذ آلاف السنين، ويصل إلى مصر بشكل متواتر ومستقر. كما أن مجريات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وقدرة مصر على البقاء على قيد الحياة تتوقف على نهر النيل. ومن ثم، فإن مصر لديها قضية عادلة يجب أن تحسن عرضها على المستويين الإقليمي والدولي، وأن تظهر أيضا أنها ستدافع عن هذه الحقوق المدعومة بالتاريخ، وبالقانون، وبالاحتياجات التي لا يمكن الاستغناء عنها.
(*) تقديم ملحق : النهر المتأزم ..خيارات مصرية تجاه التحولات في حوض النيل، مجلة السياسة الدولية ، إبريل 2013
*رئيس وحدة السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)