أبعاد ودلالات الاحتجاجات العراقية ضد حكومة المالكي (إيمان رجب)

إيمان رجب *

 

لا تزال التطورات في العراق تفرض نفسها على ساحة التطورات في الشرق الأوسط، وذلك رغم سيطرة الاهتمام بحالة الثورة التي تعيشها المنطقة العربية، وما ارتبط بها من تحولات استراتيجية على اهتمامات المحللين ومراكز الفكر، حيث تكتسب المظاهرات والاعتصامات في المحافظات العراقية أهمية كبيرة، من حيث كونها خلقت أزمة من المتوقع أن تغير المعادلة السياسية التي استند إليها المالكي، منذ وصوله للسلطة في 2006، لصالح مزيد من الحضور للقوى السنية في السلطة.

"تسييس" قوى الشارع
أسست الصيغة التي أنهت أزمة تشكيل الحكومة العراقية، بعد انتخابات مارس 2010، لمجموعة من الأزمات السياسية التي صاحبها ارتفاع معدل العنف في المدن العراقية، وتعد الأزمة الحالية امتدادا لها. ولكن الجديد في هذه الأزمة هو تزايد دور قوى الشارع كقوى لها مطالب سياسية، تحركها حسابات اجتماعية واقتصادية، مرتبطة بنصيب السنة من السلطة.
وقد سبق أن اندلعت مظاهرات مماثلة خلال عام 2011، ولكنها لم تحظ باهتمام كبير، حيث شهدت ساحة التحرير في العراق، على سبيل المثال، عددا من المظاهرات خلال شهر فبراير 2011، والتي رآها البعض من أكبر المظاهرات منذ الاحتلال. وشملت مطالب المتظاهرين حينها تحسين الأداء الحكومي، خاصة في المجالين الخدمي والأمني، والإصلاح السياسي، وضمان حرية التعبير. وتفيد العديد من التقارير بأن المشاركين في هذه الاحتجاجات من المواطنين العاديين، ومن الشباب، ولم يكن هناك حضور للأحزاب السياسية، باستثناء الحزب الشيوعي العراقي، وهو غير ممثل في حكومة المالكي. وقد اضطرت هذه المظاهرات ثلاثة محافظين، ينتمون لائتلاف دولة القانون، إلى تقديم استقالاتهم، وهم محافظو البصرة، وواسط، وبابل.
ويختلف جوهر الأزمة الحالية عن المظاهرات السابقة، من حيث إن مضمونها مرتبط بملف السنة في العراق، الذي عادة ما كان يتم ترحيله منذ وصول المالكي للسلطة في 2006، حيث تفجرت هذه الأزمة باعتقال عدد من عناصر حماية وزير المالية العراقي رافع العيساوي، القيادي في القائمة العراقية، منتصف ديسمبر 2012، حيث دفع ذلك مجموعة من العشائر والقوى السنية لتنظيم المظاهرات والاحتجاجات في المحافظات ذات الاغلبية السنية في الغرب والشمال والوسط، انطلاقا من محافظة الانبار، إلى جانب اعتصام مستمر في الرمادي والموصل. وتطالب هذه المظاهرات بأربعة مطالب مرتبطة بتعديل وضع السنة في العراق، من حيث نصيبهم في السلطة، ومن ثم في مؤسسات الدولة، وتشمل إلغاء قانون المساءلة والعدالة الذي حل محل قانون اجتثاث البعث، وإلغاء المادة 4 من قانون الإرهاب، وتحقيق التوازن في أجهزة ومؤسسات الدولة، وإجراء تعداد سكاني بإشراف دولي قبل تنظيم انتخابات في العراق.
واللافت للانتباه أن تحركات قوى الشارع ومطالبها، واستراتيجيات التصعيد التي تتبعها، تتخطى مطالب القائمة العراقية المعارضة، مستلهمة في ذلك الثورات العربية، ومن ذلك إطلاق أسماء الجُمع مثل جمعة "الوفاء"، و"الخلاص"، و"اللاعودة"، و"العزة"، و"لا تراجع"، ورفعها شعارات تطالب ليس بتعديل وضع السنة فقط، وإنما أيضا برحيل المالكي، وهذا ما تعبر عنه شعار المتظاهرين: "يا مالكي شيل إيدك الشعب العراقي ما يريدك".

السنة.. القنبلة الموقوتة
شهدت الفترة المصاحبة لاكتمال انسحاب القوات الأمريكية المقاتلة من العراق مطالبة بعض المحافظات بالتحول إلى أقاليم إدارية واقتصادية، خاصة من قبل صلاح الدين، والأنبار، وديالى، وهذه المحافظات، خاصة في حالة الأنبار، كانت قد سبق أن رفضت فكرة التحول إلى إقليم. وقد فسر صالح المطلك، نائب رئيس الوزراء العراقي، هذا التحول بسياسات المالكي تجاه هذه المحافظات، وتوغل السلطة الأمنية لحكومة بغداد في داخلها.
كما يعد هذا التحرك من قبل هذه المحافظات الثلاث رد فعل على سياسات المالكي التي استهدفت السنة والقائمة العراقية التي تمثل قطاعا مهما من السنة، حيث شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات لأساتذة وأكاديميين في جامعة تكريت، ولضباط سابقين بتهمة انتمائهم لحزب البعث، وتدبيرهم انقلابا عسكريا. كما استهدف نوري المالكي نائب الرئيس العراقي، طارق الهاشمي، ولعب دورا ما في استصدار مذكرة اعتقال في حقه، وسعى لسحب الثقة من نائبه صالح المطلك، وكلاهما من قيادات القائمة العراقية. كما أنها تعد رد فعل على فشل المالكي في تحسين الوضع الاقتصادي والخدمي في البلاد، خلال المائة يوم التي تحدث عنها بعد تشكل حكومته.
ويرتبط تحرك هذه المحافظات بصراع متحول في طبيعته، مرتبط بإقصاء السنة عن المؤسسات السياسية والأمنية. وقد ظلت معالجة حكومة المالكي لهذا الملف غير فعالة، خاصة أنه لم يلتزم بما نص عليه اتفاق أربيل من تمثيل للسنة في السلطة، وهو ما يعد المتغير الذي مهد للأزمة الحالية.

نهاية عهد سياسات "المسكنات"
لا تزال سياسات الحكومة في التعامل مع المظاهرات الحالية غير فاعلة، ولا تتعدى كونها مسكنات مؤقتة، بل إنها تستفز قوى الشارع لتصعيد مطالبها، ورفع سقفها. وعدم فاعلية هذه السياسات ليس وليد اللحظة، وإنما ناتج بدرجة كبيرة عن استمرار أولوية اقتسام السلطة السياسية على تحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وهو ما قد يكون لعب دورا في تحرك الشارع، ليتخلى عن مطالبه الاجتماعية والاقتصادية التي تصدرت مظاهرات 2011، لصالح مطالب سياسية مرتبطة بتحصين وضع السنة.
اتبعت حكومة المالكي عددا من السياسات للتعامل مع هذه المظاهرات. فمن ناحية، استخدمت الحكومة العنف لفض المظاهرات، وهو ما تسبب في حادث الفلوجة 25 يناير 2013 الذي أدى الى مقتل سبعة أشخاص، نتيجة إطلاق الجيش النار على المتظاهرين، وهم يؤدون صلاة الجمعة.
ومن ناحية ثانية، سعى المالكي لتشويه المظاهرات، حيث حذر المالكي في بيان له من "مؤامرات مخابرات إقليمية، وبقايا النظام السابق، وتنظيم القاعدة لجر الجيش إلى مواجهة مع المتظاهرين". كما صرح في 2 يناير 2013 بأن هناك "أجندات أجنبية وراء الاحتجاجات.. لقد صبرنا كثيرا، ولا تتوقعوا أن المسألة مفتوحة". ومن ناحية ثالثة، لجأ المالكي للنأي بنفسه عن المسئولية عن هذه المظاهرات، حيث حمل مجلس النواب مسئولية تلبية مطالب المتظاهرين، كما شكل لجنة وزارية تتألف من سبعة وزراء، ويرأسها حسين الشهرستاني، نائب رئيس الوزراء ، لمناقشة مطالب المتظاهرين.
وفي المقابل، نجحت قوى الشارع في استقطاب القوى السياسية المناوئة للمالكي لمساندتها. فمن ناحية، تمت استمالة مسعود بارزاني، على نحو يفيد بتحول الدور الكردي في الصراع في العراق، حيث ظل الأكراد، خاصة جلال طالباني، الوسيط بين المالكي والقوى العراقية الأخرى. ولكن يبدو من سياسات الاستعداء التي اتبعها المالكي أخيرا ضد الأكراد، ومنها إرسال قيادة عمليات دجلة إلى المناطق المتنازع عليها، ووقف رواتب ثلاثة أفواج كردية تابعة للفرقة 12 ، ومدرستى قلاجولان وزاخو العسكريتين التابعتين للجيش العراقي، أن الأكراد، خاصة في ظل غياب طالباني بعد مرضه، أصبحوا طرفا مباشرا في هذا الصراع.
كما أعلن التيار الصدري تأييده للمظاهرات، وأعلن عن انسحاب وزرائه من اللجنة الوزارية بعد " فشل اللجنة في الوصول لنتائج فعلية"، وهما وزير البلديات، ووزير الموارد المائية. كما أعلن مقتدى الصدر عن تضامنه مع مطالب المتظاهرين في الأنبار، وطالب في 1 يناير 2013 النواب بالوقوف الى جانب المتظاهرين "مادامت مطالبهم شرعية وخدمية"، وأكد مخاطبا المالكي "أنهم شركاء معنا في بناء العراق كحال جميع الاطراف والطوائف".
ومن ناحية أخرى، اتجه المتظاهرون لتأكيد الوحدة الوطنية، من خلال رفعهم شعار "إخوان سنة وشيعة هذا الوطن لا نبيعه"، وتنظيم صلاة جمعة موحدة في 4 يناير 2013 في جامع الشيخ عبدالقادر الكيلاني في بغداد تجمع السنة والشيعة، وقد شارك السيد الصدر فيها.
وتجدر الإشارة إلى مزاوجة هذه القوى بين سياسات الشارع، واستخدام الآليات السياسية المتاحة لتقويض سلطات المالكي، حيث دعا نائب رئيس الوزراء، صالح المطلك، في 3 يناير 2013 إلى استقالة الحكومة، وإجراء انتخابات مبكرة، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة تشرف على الانتخابات من دون الرئاسة الحالية، ثم لا ترشح نفسها في الانتخابات المقبلة. كما دعا ائتلاف القائمة العراقية في 4 يناير 2013 لحل البرلمان خلال 48 ساعة، وأن حكومة المالكي ستكون حكومة تصريف أعمال.
إلى جانب ذلك، طرح مجلس النواب مشروع قانون يحدد ولاية رئيس الوزراء بولايتين بدل ثلاث، بموافقة 172 نائبا، ويرى المالكي أن هذا الإجراء يخالف نص الدستور الذي يعطي سلطة تقديم مشاريع من رئاسة الوزراء أو الحكومة، وقد يصطدم بعد إقرار البرلمان له بعد موافقة المحكمة الاتحادية. إلى جانب ذلك، أعلن شيوخ العشائر في غرب العراق في 3 فبراير 2013 عن عقد مؤتمر في الأنبار بمشاركة عشائر الجنوب لحل أزمة المظاهرات مع اللجنة الوزارية التي شكلها المالكي.
قد يفرض قرب انتخابات المحافظات في أبريل 2013 صيغا محددة لإنهاء الأزمة الحالية في العراق، وقد لا تخرج هذه الصيغ عن سياق التحالفات المؤقتة، التي اعتاد المالكي على تشكيلها، منذ وصوله للسلطة، ومن المحتمل أن يستمر معها العنف، خاصة في ظل حديث بعض المصادر الكردية، استنادا لما نشر في الشرق الأوسط في 3 فبراير 2013، عن تحرك عصائب أهل الحق للهجوم على المتظاهرين، ويظل ذلك مرهونا بما سينتهي إليه الصراع في سوريا.
إلى جانب ذلك، ستحدد آلية إدارة هذه الأزمة، إلى جانب ميزان القوى الداخلي في العراق بين القوى المؤيدة للمالكي والقوى المعارضة له، حدود تأثير العامل الإقليمي على الوضع السياسي في العراق. حيث تعد الأزمة الحالية مؤشرا مهما على بداية تغير ما في ميزان القوى في منطقة المشرق. فطوال الفترة الماضية، ظل المشرق خاضعا بدرجة كبيرة للنفوذ الإيراني، خاصة في العراق، وسوريا، وجنوب لبنان، على نحو أسس لـ"هلال شيعي"، وظلت السعودية وتركيا، وبدرجة ما مصر، تلعب دور المنافس لهذا النفوذ.
حيث تعكس المظاهرات الحالية في العراق بداية تحول ما في معادلة النفوذ في هذه المنطقة، يتمثل في تآكل شرعية الحكم الموالي لإيران في العراق، خاصة أن القوى الرئيسية المحركة للمظاهرات تتألف من العشائر السنية، والقوى المكونة للقائمة العراقية برئاسة إياد علاوي، والقوى الشبابية التي تبحث عن هوية وطنية كبديل للطائفية، إلى جانب القوى التي تصور نفسها على أنها مناوئة لإيران، مثل التيار الصدري، والقوى الكردية، بزعامة مسعود بارزاني، وهي قوى تحظى بقبول ما من الدول المنافسة لإيران في المشرق. وسيلعب ما سينتهي إليه الصراع في سوريا دورا مهما في تحديد أبعاد هذا التحول.

*باحثة بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام

مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى