أثيوبيا وتركيا.. من النّيل إلى الفرات و”إسرائيل” تنتظر

 

بعد أن نجحت الولايات المتحدة الأميركية في مشروعها الجهّنمي الّذي أدى إلى تقسيم السودان؛ البلد الذي كان معقلاً استراتيجياً لدعم حركات التحرر في القارة السوداء، بدأت أثيوبيا، بدورها، بدعم من واشنطن ومنظّمات اللوبي اليهودي، في تنفيذ مشروعها الاستراتيجيّ، ألا وهو بناء سدّ النهضة على النيل الأزرق، وهو الرافد الثّاني الأهمّ للنيل الذي يغذّي مصر بحوالى 55 مليار متر مكعّب من مياه النهر المذكور.

لم تهمل أديس أبابا التنسيق والتعاون المسبق مع الدول التي ينبع منها النيل الأبيض، والتي لن تتأخر بدورها في بناء سدود مماثلة، مع استمرار الغزو الصّهيونيّ ومنظّمات اللوبي اليهودي للدول المذكورة. وكلّ ذلك بسبب غياب الانتباه والاهتمام المصريّ والعربيّ عموماً بهذه الدول التي توغّلت فيها الرساميل اليهودية، إضافةً إلى الخدمات الاستشارية، الأمنية منها والعسكرية والاستخباراتية، التي تقدّمها تل أبيب لأنظمة هذه الدّول.

وأعادت قضية سدّ النهضة المهتمين بشؤون الأمن المائي في مصر والمنطقة العربية إلى الحديث عن احتمالات حروب المياه، بسبب تراجع كمية المياه الجوفية والسطحية، نتيجة التقلبات الطبيعية ونسبة التصحر العالية في دول منابع الأنهار الرئيسية، وأهمها النيل غرباً، وكل من الفرات ودجلة شرقاً. ومن الصّدف والأقدار أن يكون معدّل التصريف السنوي المشترك للنهرين المذكورين في تركيا مشابهاً لمتوسط التدفق السنوي لنهري النيل الأزرق والأبيض، وهو 84 مليار متر مكعب.

ومن دون الاضطرار للعودة إلى التوراة وأحاديث أرض الميعاد لليهود من النيل إلى الفرات، يكتسب الحديث عن المياه أهمية إضافية، لتوقيته الزمني الذي يصادف اتفاق تركيا وأثيوبيا في العداء لمصر، وبالتالي انعكاسات الدور التركي في سوريا على قضية المياه، باعتبار أن الفرات ودجلة ينبعان من تركيا، ثم يتجهان جنوباً باتجاه سوريا ثم العراق.

وهذان البلدان العربيان أيضاً لهما علاقة مباشرة بتاريخ اليهود، ما دام النبي إبراهيم قد ولد في أور، جنوبي العراق، وبالقرب منها تقع بابل، الّتي عاش فيها النبي يعقوب، وكلاهما غادراها إلى بلاد كنعان، مروراً بتركيا وسوريا، بحسب النصوص الدينية والأساطير اليهودية التي تناشد يهود اليوم للسيطرة على المنطقة من النيل إلى دجلة والفرات، أي ما يسمى “الهلال الخصيب”.

وتتحدّث المعلومات هنا عن نشاط مكثف للموساد الإسرائيلي شرقي الفرات، حيث التواجد الأميركي من أجل الدولة الكردية، وعلى أراضيها نهر الفرات، وبالقرب منه دجلة، الذي أراد الغرب لداعش أن يسيطر عليه عندما احتل الموصل في حزيران/يونيو 2014. وتتواجد في هذه المنطقة أيضاً السدود التي سبق أن بنتها الدولة السورية على نهر الفرات، وعددها 3 سدود تغذي المنطقة بالكهرباء ومياه الشرب والزراعة، حالها حال السدود التي بنتها الدولة العراقية على دجلة قرب الموصل.

وأياً كانت المخطَّطات والمشاريع الإسرائيلية للسيطرة على دجلة والفرات، وبعد أن نهبت تل أبيب كل الوثائق التاريخية من المتحف الوطني العراقي يوم سقوط بغداد في 9 نيسان/أبريل 2003، فإن تركيا كانت، وستبقى مستقبلاً، الطرف الأهم في معادلات المياه في المنطقة، مع تصاعد التوتر بين أثيوبيا ومصر التي يعادي إردوغان رئيسها عبدالفتاح السيسي، لأنه أطاح بالإسلامي محمد مرسي.

وبدأت المعلومات الصحافية الغربية تتحدث عن تنسيق وتعاون نشط بين أنقرة وأديس أبابا عبر أراضي الجارة الصومال، حيث التواجد التركي الموسع، وفي جميع المجالات. وشاء القدر أن يجمع أثيوبيا وتركيا، ليس فقط من حيث الكمية المتساوية لمياه الفرات ودجلة مع النيل الأزرق والأبيض، بل أيضاً من حيث الاتفاق مع واشنطن في ما يتعلَّق بالمخططات الأميركية الخاصة بالمنطقتين، فعندما كان عبدالناصر يبحث مع السوفيات موضوع بناء السد العالي على النيل، أوصت واشنطن الحكومة الأثيوبية آنذاك (1957) ببناء العديد من السدود على النيل الأزرق ونهرين آخرين يغذيان النيل بحوالى 72 مليار متر مكعب من المياه، ليكون ذلك سلاحاً استراتيجياً ضد مصر التي تعرَّضت للعدوان الثلاثي قبل عام من ذلك التاريخ.

وكشفت تقارير المخابرات الأميركية التي تم العثور عليها في السفارة الأميركية في طهران عن توصيات تقدمت بها واشنطن قبل ذلك التاريخ بعام واحد إلى حكومة عدنان مندرس، دعتها فيها إلى بناء سدود كبيرة على الفرات ودجلة لتستخدمها مستقبلاً كسلاح فعال ضد جارتها سوريا. وكانت علاقات أنقرة معها آنذاك سيئة، بسبب التوتر التركي مع عبدالناصر ومصر، التي تصدت للأحلاف العسكرية التركية مع واشنطن ولندن وطهران، وهي حلف الأطلسي وحلف بغداد قبل ثورة تموز/يوليو 1958 في العراق.

ومع استمرار التحالف الاستراتيجي التركي مع واشنطن، بنت أنقرة بعد ذلك التاريخ 5 سدود كبيرة على الفرات، وهي كاراكايا وكابان وأتاتورك وبيراجيك، وآخرها سد قرقميش، الذي يبعد عن الحدود مع سوريا حوالى 3 كيلومترات فقط. وتختزن بحيرات السدود الخمسة على الفرات، ومعها سدّان على دجلة، حوالى 80 مليار متر مكعب من المياه التي كانت سبباً لفتور، وأحياناً لتوتّر خطير بين أنقرة وكل من دمشق وبغداد، على الرغم من التنافر شبه الدائم بينهما.

وكانت هذه السدود سبباً لدعم سوريا حزب العمال الكردستاني التركي بعد العام 1980، إلى أن توصّل الطرفان إلى اتفاق وقعه الرئيس الراحل تورغوت أوزال مع الرئيس الراحل حافظ الأسد في العام 1987. وتعهّدت تركيا بموجب هذا الاتفاق بأن تترك 500 متر مكعب في الثانية من مياه الفرات لسوريا والعراق، على أن ترتفع هذه الكمية إلى 650 متراً مكعباً بعد 5 سنوات، على أن يتم التوقيع حينها على الاتفاقية النهائية لتقاسم مياه النهر المذكور. لم يتحقق هذا الأمر بسبب موقف سليمان دميرال، الذي أصبح في نهاية العام 1991 رئيساً للوزراء، فرفض التوقيع على الاتفاقية، واستعجل افتتاح سد أتاتورك على الفرات، وقال: “كما يبيع العرب بترولهم، فنحن أيضاً يحق لنا أن نبيع مياه أنهارنا”.

ودفع ذلك دمشق إلى العودة إلى دعمها السابق لحزب العمال الكردستاني، الذي كاد أن يكون سبباً لتوتر خطير بين البلدين في أواخر العام 1998، حيث تم التوقيع على اتفاق أضنة في تشرين الأول/نوفمبر 1998، بعد أن غادر زعيم الحزب عبدالله أوجلان سوريا.

وكان التقارب السوري- التركي بعد استلام حزب العدالة والتنمية السّلطة كافياً لإغلاق ملف الخلافات حول الفرات، ولكن ليس لوقت طويل، إذ تدهورت العلاقات بين البلدين من جديد بعد ما يسمى بـ”الربيع العربي“، الذي يبدو أنه أنسى سوريا خلافاتها المائية مع تركيا. وأثبتت السنوات اللاحقة أن خلافاتها الأخرى أهم بكثير من المياه، ما دام حوض الفرات محتلاً أميركياً، والوضع في العراق يمنعه من التنسيق والتعاون مع دمشق لمواجهة تركيا في موضوع المياه وبات واضحاً أن هذه المياه، وكما هو الحال بين مصر وأثيوبيا (ودول المنبع)، كانت وستبقى سبباً مهماً لخلافات جدية، ليست اقتصادية فحسب، بل استراتيجية أيضاً، بسبب الواقع العسكري والأمني بين تركيا وكل من العراق وسوريا، وحيث التواجد العسكري التركي المدعوم بعشرات الآلاف من المسلحين الإسلاميين الموالين لها في هذين البلدين، إضافة إلى الصومال وليبيا، فالأولى جارة أثيوبيا، والثانية على حدود مصر المدعومة من السعودية والإمارات، جارتي قطر، وفيها الجيش التركيّ أيضاً.

كما بات واضحاً أن تركيا، ومعها أثيوبيا، واللتين لم توقّعا على الاتفاقية الدولية الخاصة بالأنهار المشتركة العابرة للحدود، لن تلتزما بعد الآن بأي تفاهم شفهي أو مكتوب، ما دامتا تريان في الأنهار المذكورة أنهاراً عابرة للحدود، وليست أنهاراً مشتركة، ويحق لدول المنبع التصرف بها كما تشاء، مع مراعاة مصالح دول المصبّ، على أن تحدد وحدها حجم هذه المصالح، وخصوصاً في سنوات الجفاف التي يبدو أنها قادمة لأسباب عديدة.

وتراقب “إسرائيل” كل هذه الحسابات التركية والأثيوبية عن كثب، بل وتشجّعها، لتضييق الحصار على أهم أعدائها، وهي مصر وسوريا والعراق، وهي ضمن حدودها التاريخية والدينية التي تسعى “إسرائيل” لتحقيقها مستغلة الواقع العربي والإقليمي الذي يخدم فقط مصالحها، وهي زوّدت أثيوبيا بصواريخ متطورة للدفاع عن سدودها، فيما رجّحت تركيا “أس-400” الروسية التي يسعى السيسي أيضاً إلى شرائها، ليتحول السلاح إلى لغة الجميع، ويحل محل الحوار والتفاهم. وبغيابه، ستحقق “إسرائيل” أحلامها التي لا تريد لإيران وسوريا والمقاومة أن تعكّر صفو أجوائها!

هذا هو مفتاح، بل وربما سر كلّ السيناريوهات التي كتبها البعض للمنطقة، وطبَّقتها الأنظمة منذ ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وهو الفصل الثاني لمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي أرادت له كونداليزا رايس أن يقسم الكثير من دول المنطقة إلى دوليات تقرر مصيرها واشنطن بعد استشارة كيسنجر وأولبرايت، تلميذة بريجنسكي، الذي توفي قبل 3 سنوات، وهم جميعاً يهود متصهينون. وعلى خطاهم يسير ترامب وصهره اليهودي جاريد كوشنر!

 

 

الميادين . نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى