«أجمل التاريخ كان غداً» سيرة حقبة يرويـها إيلي فرزلي [2]: فخامة الجنرال

 

بعد حلقة أولى، هنا حلقة ثانية من كتاب نائب رئيس مجلس النواب إيلي فرزلي الذي صدر أخيراً «أجمل التاريخ كان غداً»، يروي سيرة سياسية للحقبة التي رافقها منذ ما بعد اتفاق الطائف إلى حين انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. يتحدث فرزلي عن معايشته ولايات ثلاثة رؤساء للجمهورية هم: إلياس هراوي، إميل لحود وميشال سليمان، وعشرات الشخصيات التي عبرت فيها تجربته، سوريين كغازي كنعان ــ الذي يحوز أوسع تفاصيل في العلاقتين السياسية والشخصية ــ وعبد الحليم خدّام وبشار الأسد ورستم غزالي، ولبنانيين كميشال عون ونبيه بري ورفيق الحريري وعمر كرامي وأمين الجميّل ووليد جنبلاط وجان عبيد وسمير جعجع وميشال المر وجميل السيد وسعد الحريري وفؤاد السنيورة والمطران أندره حداد والسيد حسن نصر الله والبطريرك مار نصر الله بطرس صفير وبشير الجميل وجوزف سكاف وحسين الحسيني وإلياس حبيقة، ناهيك عن آخرين تحالف معهم أو اشتبك، مقدّماً عصارة تجربته في مقاربة حقبة الطائف، ومطالعة طويلة في تقييمه للعلاقات اللبنانية ــــ السورية في مراحل صعودها وهبوطها، إلى حين خروج الدور السوري من لبنان، ثم ما تلاه من انقلاب موازين القوى في البلاد. كذلك، يستهل فرزلي كتابه بنبذة طويلة عن عائلته في تاريخ لبنان والمقدمات السياسية، التي أُعدّت للحرب اللبنانية التي رافقها كشاهد، قبل أن يمسي شريكاً في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف.

أفَلَت رئاسة إلياس هراوي، وأطلَّ علينا، بعد طول انتظار، استحقاق جديد. أسماء كثيرة دخلت في «البازار» كالعادة، وكان المطلوب واحداً مطابقاً للمواصفات التي عكفنا على تحديدها بدقة وترتيب أولوياتها. على جاري عادته، طلب مني غازي كنعان، أواخر أيلول 1998، إبداء وجهة نظر خطِّية بالمرشحين المتداولة أسماؤهم لرئاسة الجمهورية. تداولت في الأمر مع جميل السيِّد، وجلسنا إلى الطاولة نستعرض الأسماء المؤهَّلة وضمَّت الأربعة الرئيسيين: الوزراء: ميشال إده، فارس بويز وجان عبيد، وقائد الجيش إميل لحود.

لم تكن المسألة عملية «غربلة»، لأنّ الرأي المطلوب هو «استئناسي»، حسب اللغة التي ابتكرها كامل الأسعد في نهاية العهد الشهابي، يوم كان «الاستئناس» هو المدخل والمخرج في السياسة اللبنانية، أين منه التقارير الاستخبارية الدارجة في الستينيات مع الأنظمة العسكرية الوافدة بزخم إلى الدول العربية المجاورة والبعيدة. بعد الاتفاق على الأسماء، وضعنا جدولاً للمقارنة معيار القياس فيها يضمُّ 13 بنداً، أو «وحدة قياس» في لغة العلم، تحتوي على المواصفات المطلوبة في الرئيس المقبل، بغية الوصول تباعاً إلى الاسم الأكثر استيفاءً للشروط المدرجة، أبرزها الأربعة الأوائل وهي:

أولاً ــــ مَن مِن بينهم يستطيع أن يأتي بالمسيحيين إلى النظام بعد طول مقاطعة، ويأخذهم إلى إعادة صوغ العلاقة مع سوريا على أسس من الثقة والاحترام المتبادل.

ثانياً ــــ مَن مِن بينهم الأقدر على إعادة بناء الدولة على قاعدة أنَّ إسرائيل هي العدو الأول للبنان.

ثالثاً ــــ مَن مِن بينهم الأقدر على بناء منطق الدولة، لتكون دولة وطنية قادرة وعادلة ولها أفق واعد.

رابعاً ــــ مَن مِن بينهم يعجز رفيق الحريري عن استيعابه.

كنّا نعرف ما يريد السوريون وما هو قرارهم، باستئناس أو من دونه، وخصوصاً أن جميل السيِّد في مقدَّم «المستأنسين». وكنت شخصياً، بعد تجربة إلياس هراوي ومطالعتي الاستئناسية فيها، (كما مرّ) أشعر بأنني سوف أتلقَّى الخيبة الأولى من الرئيس العتيد، كائناً من كان، وربما على يد شريكي في الاستئناس. كنت في قرارة نفسي أفهم لماذا طلب منِّي غازي كنعان تأكيد المؤكّد، فهو كان يريد مخرجاً يُعفيه من المسؤولية في حال «شاطت الطبخة»، وكتفاً لبنانية يُلبسها عباءة الملامة، فعلاقتي به، بحلوها ومرِّها، بسلبياتها وإيجابياتها، كشفت له، بأن كتفي هي الأقدر على حمل الأثقال. رُفعت المطالعة التي خرجنا بها، جميل السيِّد وأنا، إلى الرئيس السوري، وفيها ترجيح إميل لحّود أولاً، يليه جان عبيد، طبقاً لجدول المواصفات التي وضعناها، فكانت على مكتب الرئيس حافظ الأسد، قبل أيام قليلة من القمّة بينه وبين الرئيس اللبناني، التي انعقدت في 5 تشرين الأول 1998، للبحث في الانتخابات الرئاسية.

بعد انتهاء تلك القمَّة، لم يستطع إلياس هراوي كبح كيده. غلبه طبعه التآمري. من سيارته وهو عائد من دمشق، هاتَفَ إميل لحّود وأبلغه بأنّ القرار السوري بانتخابه رئيساً للجمهورية خلفاً له قد اتُّخذ وصار باتّاً. تصرُّفٌ مريبٌ ومتعمَّدٌ وسيئُ النيّة، فقد كان بإمكانه أن ينتظر حتى وصوله إلى قصر بعبدا، لينقل الرسالة حسب الأصول، على الأقل من الناحية الشكلية. تقصَّد هراوي من تلك المكالمة تشويه سمعة إميل لحّود، وتصويره بأنه «صنيعة سوريا»، قبل وصول ترشيحه إلى مجلس النواب، كأنّما كان وصوله هو إلى الرئاسة صناعة لبنانية لا غبار عليها!

لم يترك مجالاً ليظهر خليفته بأنه يحظى بإجماع اللبنانيين، أو على الأقل بإعجابهم، لتاريخه الناصع في قيادة الجيش، أو في الحدِّ الأدنى مراعاة الشكليات من حيث إضفاء مسحة، أو غلاف، من الملامح اللبنانية على ذلك الخيار. كان في إمكان هراوي، لو شاء الرصانة والمسؤولية، استمهال إعلان ما تقرَّر في 13 تشرين الأول 1998 إلى حين تعديل مجلس النواب الفقرة الثانية من المادة 49 في الدستور، لإزالة المانع من انتخاب موظّفي الفئة الأولى لرئاسة الجمهورية، واستثنائهم من شرط الاستقالة قبل سنتين من موعد الانتخابات الرئاسية. لم أعرف أحداً في زحلة، كما عرفت إلياس هراوي. إنه لا يستطيع أن يكون سوى «محراك» للغرضيَّة والأذى، لذلك لا يُفهم تصرُّفه حيال القرار السوري بتزكية قائد الجيش، إلا تآمراً مشهوداً. على كلِّ حال، أيَّد تعديل تلك المادة 113 نائباً، فيما عارضه أربعة نواب، لتدخل البلاد في حقبة جديدة.

بعد يومين، في 15 تشرين الأول، انتخب مجلس النواب بإجماع الحاضرين، وعددهم 118 نائباً، قائد الجيش رئيساً للجمهورية، غاب عن جلسة الانتخاب عمر كرامي وكتلة وليد جنبلاط بنوابها السبعة. أملنا أن يكون انتخاب إميل لحّود انعطافاً ذا شأن كبير. الجيش يدعمه، والرأي العام المسيحي إلى جانبه، والوسط الإسلامي يحترمه وليس لديه سبب لرفضه. البطريرك الماروني كان بادي الرضى عندما تبلَّغ احتمال وصول لحّود إلى الرئاسة. كان اللبنانيون ممتعضين ممّا شاع عن فساد الطبقة السياسية، مقابل توسُّمهم خيراً من الصورة البرّاقة للمؤسسة العسكرية، فجاء انتخاب إميل لحّود وكأنَّ الهدف المنشود صار في اليد: الانتقال بالبلاد من مرحلة إلى أخرى نقيضة لها، خارج دائرة الفساد التي اتسعت رقعتها في العهد المنصرم، فذرَّ بقرنه في الإدارات والدوائر الرسمية، ونَغَلَ في الدولة يلفُّها لفَّاً سرطانياً.

في 26 تشرين الأول، بعد أيام على انتخاب إميل لحّود، زرت بكركي، فلمست لدى البطريرك ارتياحاً ممّا حدث، وإن عُزي دعم وصول قائد الجيش إلى رئاسة الجمهورية بقرار سوري أولاً، فخرجتُ أصرِّح للصحافيين من على درج بكركي معبِّراً عن قراءة مشتركة للمأمول من انتخاب قائد الجيش، قائلاً: «إنه يصبُّ في خانة طمأنة الشعب اللبناني إلى مستقبله، وطمأنة الجماعات اللبنانية إلى نظام ديموقراطي تصونه العدالة والفكر المؤسساتي».

في أول لقاء لي مع غازي كنعان بعد جلسة الانتخاب، سألته أن يصارحني: «كيف سيكون الحكم الجديد؟». أجابني بلا تردُّد: «من الآن فصاعداً، كلّ ما يتّصل بالنظام والدولة وشؤونهما يكون من خلال إميل لحّود وحده. هو رئيس الجمهورية».

فهمت من ذلك أن لحُّود يحظى بدعم غير مشروط من الرئيس السوري، ما جعلنا نتوسَّم، أو نستبشر، بأن نكون أمام فصل جديد في حكم البلاد، تختلف صورته عن عهد إلياس هراوي، فنكون أمام مفهوم مختلف للدولة وهيبتها واحترامها وفرض تنفيذ قوانينها. فإذا تمكَّن إميل لحّود من جعل الدولة على صورة الجيش، نظيفة ناصعة، فيها الثواب والعقاب، منتظمة العمل والفاعلية والأداء السليم تبعاً للأصول والقواعد، محترمة مقدَّرة ومهابة، لا تنصاع سوى لسلطة القانون وتحني رأسها للدستور، فإنّ المعجزة تكون قد وقعت أخيراً. أقنعنا أنفسنا بأننا أمام رئيس للجمهورية لا يضعف أو يلين أمام رئيس حكومته، أو أيٍّ من رؤساء الدول، أو يتراخى لمصالح شخصية، وينغمس في لعبة اقتطاع الحصص والفساد واستغلال المناصب. لم نكن بالتأكيد أمام حكم عسكري وافد، ولا إميل لحّود انتخب ليكون كذلك.

ما كاد يستتبُّ الأمر للرئيس الجديد حتى برز موضوع تشكيل الحكومة الأولى للعهد، فانقسمت الآراء بين فريقين لكلٍّ وجهة نظر:

الأول، كان يرى أنَّ الرئيس الجديد يحظى بثقة شعبية بلا حدود، وبالتالي فهو ليس بحاجة إلى رفيق الحريري ليكون إلى جانبه. مال القائلون بهذا الرأي إلى سليم الحص، وهو خيار رئيس الجمهورية منذ البداية. فالرجل نظيف الكف، موثوق به، ومثقّف، سيشكّل حكومة تحظى بالتقدير على صورة مواصفاته، فتُدخل البلاد معها في تغيير شامل من حيث أسلوب الحكم.

أمّا الفريق الثاني، فقد كان سنده رغبة حافظ الأسد في أن يكون رفيق الحريري إلى جانب إميل لحّود، يتعاونان معاً من خلال حكومة تختلف مواصفاتها عن تلك التي رافقت عهد هراوي.

كانت القيادة السورية تعوِّل على الدور المهم لرفيق الحريري في لبنان والمنطقة، بما كان له من شبكة واسعة من العلاقات العربية والدولية التي تمكَّن منها، فمنحته حضوراً فاعلاً ونافذاً، تعتقد دمشق أنها في حاجة إليه. غداة انتخابه، وعشيَّة تسلُّمه صلاحياته الدستورية، اصطحب غازي كنعان الرئيس إميل لحّود بسيارته إلى دمشق لاجتماع سرِّي مع نظيره السوري. كان إميل لحّود يظنُّ أنَّ بإمكانه إقناع الرئيس الأسد بسليم الحص، إلّا أنّ الرئيس السوري وجد أن ضرورة المرحلة تحتِّم أن يكون رفيق الحريري شريكاً له في الحكم. خلال المحادثات، لمس الرئيس السوري تردُّد نظيره اللبناني في الخيار الذي نصحه به. بعدما رافق زائره مودِّعاً، حتى السيارة، نادى الأسد على غازي كنعان وهمس في أذنه: «لاحظت منه إشارة لم تعجبني… فانتبه».

بعد القمة السرِّية بين حافظ الأسد وإميل لحّود، استنتجت من حديث غازي كنعان معي عمّا دار فيها، أن الرئيس اللبناني الجديد كان مقتنعاً بأنّ في وسع سليم الحص اجتثاث لوثة الفساد التي طغت على العهد السابق، ولديه ما يكفي من الخبرة والثقافة الاقتصادية، ما يضع البلاد على طريق مختلفة، من شأنها تخليصها من الخوف الذي أشاعه رفيق الحريري، بإمساكه بورقة الاقتصاد الوطني ومعادلة الترهيب التي أدخلها في عقل الطبقة السياسية: إما أن يبقى في منصبه يتصرَّف على هواه، أو يتهاوى الاقتصاد والنقد الوطني على رؤوس اللبنانيين الذين أوهمهم أنه وحده، ووحده فقط، من يحمي الليرة.

الحقيقة أنّ رأي غازي كنعان كان منسجماً مع رأي الرئيس لحّود، نظراً إلى أنّ كلمة الحص مصغى إليها محلياً كما في الخارج، مع دول الخليج العربي، والغرب، والأميركيين خصوصاً، وقد خبر رئاسة الحكومة أكثر من مرة في عهود إلياس سركيس وأمين الجميل وإلياس هراوي.

أثناء رجوع غازي كنعان مع إميل لحّود من دمشق، بذل كلَّ ما لديه من وسائل ليُدخل في رأس الرئيس فكرة ضرورة أن يكون رفيق الحريري رئيساً للحكومة. قال لي غازي كنعان أيضاً: «حاولت في طريق العودة تنفيذ قرار الرئيس الأسد، أكثر من اقتناعي الشخصي بهذا الهدف. وكان إميل لحّود مستعدّاً أن يقبل بأي مرشح آخر غير رفيق الحريري أو سليم الحص. وفي النهاية، ظلَّ على تفضيله سليم الحص، لكنّه لم يوصد الباب نهائياً أمام عودة رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة». لم يستطع غازي كنعان زحزحته عن اعتقاده بأن سليم الحص هو أفضل الخيارات المتاحة. سألت غازي كنعان عن مواقف بقيّة القادة السوريين من مسألة لحّود والحريري، فأبلغني أنّ حكمت الشهابي وافقني على انتخاب إميل لحّود لأنّه خبره وتعاطى معه عندما كان في قيادة الجيش، لكنّه يلتقي مع عبد الحليم خدّام في تزكية رفيق الحريري لرئاسة الحكومة. أمّا خدّام، فقد كان من البداية معارضاً وصول لحّود إلى رئاسة الجمهورية، وهو مستميت في تأييد عودة رفيق الحريري إلى الحكم.

حدَّد رئيس الجمهورية، بعد يومين من أدائه القسَم الدستوري، مواعيد الاستشارات النيابية الملزمة، المنصوص عليها في المادة 53 من الدستور، لتسمية الرئيس المكلَّف تأليف الحكومة، في 26 تشرين الثاني 1998، على مدى يومين، حاز رفيق الحريري خلالهما الأغلبية النيابية. اغتنمت تلك الفرصة لأطرح على بساط المناقشة مضمون المادة 53 من الدستور، وكانت لي وجهة نظر مغايرة للمفهوم السائد بأنها ملزمة لرئيس الجمهورية، بإجرائها كما بنتائجها، وكأنّ دور الرئيس فيها مجرَّد صندوقة بريد. فقلت في مؤتمر صحافي عقدته في اليوم الأول من الاستشارات النيابية الملزمة: «إنَّ الطابع الملزم لإجراء الاستشارات النيابية لا يحمِّل رئيس الجمهورية وزر نتائجها، وإنَّ للنائب الحق في أن لا يسمِّي الرئيس المكلّف تأليف الحكومة، بل تفويضه إلى رئيس الدولة الذي عليه أن يقرِّر في ضوء المعطيات التي يملكها اختيار الرئيس المكلّف العتيد».

أثار كلامي جدلاً دستورياً في هذه المادة، وسرعان ما تحوَّل إلى سجال سياسي، من زاوية التساؤل: هل يحق للنائب أن يفوِّض صوته إلى رئيس الجمهورية أم لا؟

كان رأيي أنَّ للنائب حق التصرُّف بصوته ــــ وهو صوته ــــ وحقُّه مطلقٌ غير مقيَّد بشرط، لأنه سيِّد نفسه، بوصفه يمثِّل الأمة في مجلس هو سيِّد نفسه، كما في حرفيَّة النصِّ الدستوري. لقد توخَّيت، ونحن على أبواب مرحلة جديدة، إعادة الاعتبار إلى منصب الرئاسة، بإدخال موقع الرئيس من جديد في قلب المعادلة البرلمانية والتأثير فيها، بعدما أُخرِج منها في تأليف حكومات العهد المنصرم، فقلت للصحافيين: «الرئيس ليس صندوقة بريد. هو صاحب دور كونه أقسم اليمين الدستورية. عليه أن يستقبل النائب في الاستشارات النيابية الملزمة ويناقشه في المأمول من الحكومة الجديدة ومهماتها ورئيسها، وللنائب في نهاية المقابلة أن يسمِّي مرشحاً لرئاسة الحكومة أو يترك لرئيس الجمهورية الخيار كي يضيف صوته إلى الحصيلة التي يكون قد استخلصها من مجمل المشاورات حيال المواصفات التي يقتضي أن يكون عليها رئيس الحكومة الذي سيتعاون معه».

علت أصوات الرفض والاعتراض على كلامي، ولا أستبعد أن تكون هناك يدٌ حرَّكتها في جوقة متناغمة. واستمرَّ ذلك الضجيج على الرغم من تذكيري لهم بسابقة لم يعترض عليها أحدٌ منهم عندما قام 27 نائباً بتفويض الرئيس إلياس هراوي التصرُّف بأصواتهم في الاستشارات النيابية الملزمة لتأليف حكومة جديدة في 19 أيار 1995، فأضاف الرئيس هراوي تلك الأصوات المفوَّضة إليه لمصلحة رفيق الحريري الذي كان قد نال 77 صوتاً. لم يعترض أحدٌ على ذلك أو يشكِّك فيه يومها.

فسَّر بعضهم موقفي من المادة 53 من الدستور، على أنه «ينتقص من اتّفاق الطائف وينتهكه». أعرف أنَّ القائلين بذلك يميلون إلى إلغاء دور رئيس الجمهورية بغية تعزيز موقع رئيس الحكومة. بعضهم الآخر اعتبره إشارة سورية نظراً إلى علاقتي الوثيقة بغازي كنعان. لم يكن ذلك صحيحاً على الإطلاق، فالرجل اطَّلع على موقفي من خلال الصحف، فلم يبدِ أيَّ ردّ فعل حياله لا سلباً ولا إيجاباً، ولم يفاتحني، كما في أحيان عدَّة، في التراجع عنه.

كان موقفي من المادة 53 أول مناقشة جدِّية لها، ولروح اتفاق الطائف، بعد انقضاء نحو عقد من الزمن على وضعه موضع التطبيق. فالمبتغى هو إحاطة رئيس الجمهورية بتكتل نيابي كبير يرجِّح كفَّته في مرحلة تعِد بتغيير كبير ووشيك. لكنني في ما بعد تراجعت عن هذا الموقف علناً، عندما أكَّد القائمون على اتّفاق الطائف أن الاستشارات النيابية ملزمة لرئيس الجمهورية من دون قيد أو شرط.

حرَّك النقاش حول المادة 53 العملية الاستشارية بشكل غير منتظر. أعلنت وسائل الإعلام أنَّ نتيجة الاستشارات أظهرت أنَّ 62 نائباً سمّوا رفيق الحريري صراحةً، أمَّا الباقون فلم يسمُّوه ومن بينهم كتلة نبيه بري (19 نائباً). ثم تدارك نائبا حزب البعث الموقف بالإعلان لاحقاً أنهما يختاران رفيق الحريري. صار عدد مؤيديه 64 نائباً. كذلك، صرَّحت كتلة رئيس مجلس النواب لاحقاً أنها ترشِّحه، فارتفع العدد إلى 83 صوتاً، ما يقرب من ثلثي مجلس النواب (86 نائباً). في المقابل، فوَّض 31 نائباً إلى رئيس الجمهورية أصواتهم لتسمية الرئيس المكلَّف.

في اليوم التالي، قصد رفيق الحريري قصر بعبدا واجتمع برئيس الجمهورية الذي كان قد التقى قبل ذلك رئيس المجلس لإطلاعه على نتائج الاستشارات النيابية الملزمة. وبحسب ما تناهى إليَّ، أنَّ رفيق الحريري، بعدما أبلغ إليه رئيس الجمهورية تكليفه ترؤس الحكومة الجديدة، طلب الاطِّلاع على محضر الاستشارات النيابية الملزمة وعدد الأصوات التي نالها. رفض الحريري محضر النتائج الأولى، معتبراً التفويض مخالفة دستورية، ومفاجئاً رئيس الجمهورية بالقول: «أنت يا فخامة الرئيس نلت 118 صوتاً عند انتخابك، ولا يجوز أن يحصل رئيس الوزراء على أقل من هذا العدد».

رفض التسليم بأصوات النواب الـ 31 الذين تركوا الخيار لرئيس الجمهورية، وطلب اعتبارها لاغية، ما يحتِّم دورة جديدة من الاستشارات النيابية الملزمة.

مساء 29 تشرين الثاني، كشف رفيق الحريري لوسائل إعلام ومحطات تلفزة أجنبية أنه اعتذر عن عدم قبول ترؤس الحكومة، بعدما وجد في نتائج الاستشارات النيابية الملزمة مخالفة دستورية، رافضاً تفويض 31 نائباً إلى رئيس الجمهورية ترشيح الرئيس المكلّف. أغضب تصريحه رئيس الجمهورية لاتّهامه بمخالفة الدستور، وهو بعد في الأيام الأولى من رئاسته، فصدر صباح اليوم التالي، 30 تشرين الثاني، بيان عن رئاسة الجمهورية ــــ بينما رفيق الحريري في طريقه إلى قصر بعبدا ــــ يُعلن قبول رئيس الجمهورية اعتذار الرئيس المكلَّف عن عدم تأليف الحكومة الجديدة. وصل الحريري إلى القصر الجمهوري والتقى الرئيس، ثم غادر من دون الإدلاء بأي موقف.

لم تنقضِ ساعات، حتى أصدرت المديرية العامة لرئاسة الجمهورية برنامج مواعيد استشارات نيابية ملزمة جديدة في الأول من كانون الأوّل، نال فيها سليم الحص 95 صوتاً أحالته رئيساً لأولى حكومات العهد التي أبصرت النور في 4 كانون الأول 1998.

انتقال رئاسة الحكومة من رفيق الحريري إلى سليم الحص أربك غازي كنعان، فوقع في حيرة لأنه توجَّب عليه تبرير ما حدث للرئيس السوري الذي كان قد ألحَّ على إميل لحّود التعاون مع رفيق الحريري في العهد الجديد. فكان أن ألقى الحجّة على محسن دلّول أمام حافظ الأسد، ناسباً إليه أنَّ رفيق الحريري لا يريد الانضمام إلى إميل لحّود والعمل إلى جانبه. في ما بعد أنكر محسن دلّول أن يكون قد أدلى بهذا الموقف.

اعتقدنا أن يكون التمديد تمديدين: واحد للحّود وآخر للحريري بعدما جارى الخيار السوري، إلّا أنه تمنَّع عن قبول رئاسة الحكومة ومشاركة لحّود الولاية الممدَّدة. فالرجلان لم يتَّفقا على برنامج حكم الحقبة الجديدة، فأعلن الحريري في 20 تشرين الأول 2004 استقالة حكومته، مشفوعة باعتذار عن عدم ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة الجديدة، ثمَّ وجَّه إلى اللبنانيين بياناً كان أقرب إلى الوداع.

رست خلافة رفيق الحريري على عمر كرامي. فلم يكن في الإمكان إيجاد شخصية سياسية سنِّية أخرى محسوبة على دمشق، فلا تتلاعب بالقضايا القومية الحسّاسة. أُسندت لي حقيبة الإعلام في الحكومة المؤلَّفة من 30 وزيراً، فكانت تلك تجربتي الأولى في السلطة التنفيذية. قبلتها على مضض، لأنني لم أكن مقتنعاً بها، فهي عبارة عن إذاعة لا يسمعها أحد، وتلفزيون لا يشاهده أحد، ووكالة أنباء لا يقرؤها أحد.

كنت أول وزراء تلك الحكومة أقصد دمشق وألتقي الرئيس بشار الأسد في 10 تشرين الثاني في قصر الشعب، فسمعت منه تأييداً راسخاً لعمر كرامي وحكومته، وأبلغني أنه اتّصل به مباشرة لإعلان دعمه له خارقاً البروتوكول. وقال لي أيضاً إنه يرى في تلك الحكومة إمكانات وضع أسس متينة لإنقاذ البلد والنظام. ومع ذلك، فإنني لم أشعر بالارتياح، لأنني لم أكن مقتنعاً بدوري في الحكومة.

قصدت دمشق ثانيةً، في 25 تشرين الثاني 2004، للاجتماع بالرئيس الأسد مرّة أخرى، وكانت الضغوط الدولية قد اشتدَّت وراحت تلقي بثقلها عليه، استكمالاً لصدور القرار 1559 الذي دعا إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان. فإذا كان تمديد ولاية إميل لحّود أصبح أمراً واقعاً فتعامل معه سفراء الدول على مضض، إلّا أنّ دمشق دخلت في حمأة الضغوط الدولية من كلِّ جانب. في اجتماع 25 تشرين الثاني، عرض الرئيس الأسد أمامي سلسلة التطورات المتسارعة منذ صدور القرار 1559، فقال: «عرضوا عليَّ البقاء في البقاع. لن أبقى فيه. سأنسحب من كلّ لبنان وأعود إلى سوريا. أتوقّع أن تهبَّ عليَّ عواصف عاتية، لكنني سأمترس للدفاع عن البلاد». قلت له: «قد يكون من المفيد أن أقارب في بيروت الموضوع إعلامياً لعل ذلك يخفِّف من تأثير تلك الهجمة الغربية في لبنان على دمشق». سألني مستفسراً: «كيف يكون ذلك؟» أجبته شارحاً: «سأصرِّح في بيروت، بوصفي وزيراً للإعلام، أن الجيش السوري سينسحب من كلّ لبنان، من دون أن أعلن أنك قلت لي ذلك. وسأتوجَّه إلى اللبنانيين أن البلد سوف يتعرَّض لاستهدافات شتّى في ظلِّ الفراغ الذي سيحدثه خروج الجيش السوري. وأظنُّ أن الغرب سيتنبَّه إلى مثل هذا الخطر». قال باسطاً يديه: «لا مشكلة. افعل ما تشاء».

كانت دمشق قد أجرت إعادة انتشار لجنودها في 29 أيلول 2004، وهي عمليَّة الانتشار الجزئية السادسة في ثلاث سنوات، قبل أن تبادر في 19 كانون الأول بعد أقل من شهر على لقائي بشار الأسد إلى خطوة مماثلة، بسحبها مفارز أمنية متمركزة في مطار بيروت وبرج البراجنة والبترون ونقلها مباشرةً إلى داخل الأراضي السورية، بغية استيعاب التداعيات الدولية والمحلية لقرار مجلس الأمن.

في ذلك اليوم، أدليت بتصريح أدرجتُ فيه إخلاء المراكز تلك في سياق الشعار الذي رفعه الرئيس السوري بقوله: «إن المكان الطبيعي للقوّات السورية هو سوريا». وزدت قائلاً: «إن هذا القرار هو من نتائج التفاهم بين القيادتَين اللبنانية والسورية، وقد اتُّخذ ليؤكّد حقيقتين: الأولى، أنَّ القوات السورية هي دائماً رهن رغبة الجيش والدولة اللبنانية واستعدادها لتسليم مواقعها ساعة يُطلب منها ذلك. والثانية، رسالة إلى لبنان والمجتمع الدولي رمَّةً مفادها أنَّ سوريا ليست متمسّكة بالبقاء في لبنان كقوَّة عسكرية».

قبل أيام من مقابلتي الثانية للرئيس الأسد، استقبلت في وزارة الإعلام مديري مكاتب الصحف الخليجية في بيروت، استشرفت أمامهم أننا قد نصل إلى يوم قريب جدّاً تقرِّر فيه دمشق إعادة نشر قواتها. لكن بعد أربعة أيام على زيارتي دمشق، استقبلت في 29 تشرين الثاني «مجلس نقابة محرِّري الصحافة اللبنانية»، وكشفت أمامهم فحوى ما ناقشته مع الرئيس السوري، لكن من غير البوح بالحقيقة الوشيكة، فقلت: «عدم وجود القوات السورية في لبنان احتمال قائم، وهو احتمال يجب أن يأخذه في الاعتبار أيّ مسؤول سياسي يقود بلده في مرحلة بالغة الدقّة والحساسية في الشرق الأوسط. قد يحدث وقد لا يحدث، لأن سوريا ولبنان مرتبطان بعلاقات ومعاهدات». عندما سُئلت ما إذا كان الرئيس السوري هو الذي أبلغني ذلك خلال لقائنا في دمشق، أجبت: «لا، ما ذكرته لكم هو استنتاج شخصي مني».

سألني الصحافيون أيضاً عن وضع القرار 1559 موضع التطبيق، فقلت: «يجب أن لا نستغرب إطلاقاً أن يتم ذلك في سياق قيادة سوريا لهذا الصراع، من حيث إسقاط الحجَّة الأميركية والصهيونية، فنشهد انسحاباً سورياً مفاجئاً من لبنان».

دافعت عن «المظلّة السورية الأمنية» التي حمت لبنان حتى الآن، وقلت: «لن نتخلّى عن استقلال لبنان وسيادته، ونتطلّع إلى يوم قريب ــ قريب جداً بإذن الله ــ لا نرى فيه على أرضنا عسكرياً صديقاً أو شقيقاً، وإن كان سورياً».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى