لمناسبة ذكرى رحيل مصطفى كمال أتاتورك، في العاشر من الشهر الجاري، تحدث الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، عن أن بلاده تتهيّأ لبدء عملية شاملة، سياسية – عسكرية، في سوريا والعراق، تستهدف تصفية “حزب العمال الكردستاني”.
وفسّر الكاتب مراد يتكين، خطاب إردوغان التصعيدي على أنه جاء ردّاً على ادّعاء إسرائيل دعم الأكراد، وخطوة استباقية لمنع قيام الاحتلال بشيء في سوريا من جهة؛ ومن جهة ثانية، تهيئة لظروف مؤاتية لغزو سوريا، في أعقاب انتخاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لولاية ثانية. ويعني ذلك، وفقاً ليتكين، أن المدة الفاصلة عن موعد تنصيب ترامب، في الـ 20 من كانون الثاني المقبل، ستكون حافلة بتطوّرات تستدعي من تركيا تحديداً السعي إلى جمع أوراق ضغط على أميركا.
على أن الأتراك لم ينسوا التصريح الشهير لترامب، في الـ 19 من كانون الأول 2018، حين قال: “لقد ربحنا المعركة ضد داعش. وسيعود جميع أولادنا وشاباتنا ورجالنا. سيعودون حالاً”، مستطرداً: “لا يوجد بعد الآن سبب لبقائنا هناك”، فيما دعا الأكراد لكي يتدبّروا رؤوسهم. وتسبّب ذلك التصريح بموجة من ردود الفعل المتفاوتة؛ إذ رحّب الرئيس التركي بالقرار، لأنه يعني رفع غطاء الدعم عن “وحدات حماية الشعب” الكردية، وبالتالي فتح الطريق أمام غزو تركي لمناطق شمال شرق الفرات وإنهاء الحالة “الإرهابية” الموجودة هناك. أمّا الجانب الكردي، فقد استنفر جهوده حتى لا تستعجل واشنطن ترْك المنطقة، محاولاً إقناعها بالبقاء. لكن وزارة الدفاع الأميركية، والمؤسسات الأمنية الأخرى، اعترضت على قرار ترامب، الذي تراجع، بعد فترة وجيزة، عنه، مبقياً على القوات الأميركية في سوريا. ومن هنا، فإن عودته إلى البيت الأبيض ثانيةً، استدعت التساؤل عمّا سيفعله في سوريا: هل يسحب قواته أم أنه سيبقي عليها؟
وبالعودة قليلاً إلى الوراء، كان إردوغان قد تواصل مع ترامب، في الـ 14 من كانون الأول 2018، أي قبل تصريحه الشهير، مكرّراً تحذيراته من أنه سيدخل إلى شرق الفرات، وسينهي القوات الكردية، وطمأنه إلى أن تركيا لن تستهدف القوات الأميركية، وهو ما وافق عليه ترامب، وفقاً للرئيس التركي. وبحسب ما أورده الكاتب سادات إرغين، سأل ترامب، إردوغان: “هل تستطيع تصفية داعش هناك؟ فأجابه: لقد صفّيناهم هنا، وسنتابع تصفيتهم. يكفي أن تساعدونا لوجستياً”. لاحقاً، كتب ترامب، في تغريدة، أن إردوغان وعده بتصفية التنظيم، وأنه قادر على ذلك. يقول إرغين، إن “إردوغان استند إلى محادثاته مع ترامب لدخول مناطق شرق الفرات واستكمال تصفية داعش. لكن الأمور لم تستمر في الاتجاه الذي أراده الرئيس التركي، إذ استقال وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، في الـ 20 من ذلك الشهر، كما استقال ممثل الرئيس الأميركي لدى التحالف الدولي لمكافحة داعش بريت ماكغورك”.
ولعلّ السبب الرئيسيّ وراء اعتراض هؤلاء، كما المعارضة السورية، هو أن الانسحاب الأميركي من سوريا سيخلي الساحة للإيرانيين. كما أن “البنتاغون” اعترض على خطط إردوغان لضرب “قوات سوريا الديموقراطية” الوحيدة، برأيه، القادرة على مواجهة “داعش”. كذلك، فإن اللوبي اليهودي وإسرائيل اعترضا بدورهما على فكرة الانسحاب، “حتى لا تُترك سوريا لإيران”. وتذكّر صحيفة “حرييات” بأن “اللجنة اليهودية الأميركية” ناشدت ترامب في حينه عدم الانسحاب من سوريا، “لأن الرابح الأكبر سيكون روسيا وإيران و…داعش”. ومع بداية عام 2019، كان وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، يعارضان مسألة الانسحاب.
مع ذلك، فإن ترامب لم يغيّر كثيراً من موقفه، ولكنه دعا، في الـ 13 من كانون الثاني 2019، الأتراك إلى عدم قتل الأكراد، تحت طائلة “سيمحو الاقتصاد التركي”. كما قال إن على الأكراد أن يطمئنوا الأتراك. وبذلك، كان الرئيس الأميركي يتّخذ موقفاً وسطاً.
لكن المحطة الأبرز في عهد ترامب، كانت التدخل العسكري التركي في شرق الفرات، في التاسع من تشرين الأول 2019، تحت اسم عملية “نبع السلام”، بين رأس العين وتل أبيض وبعمق 30 كيلومتراً، من دون تنسيق علني بين واشنطن وأنقرة. وكان أن أرسل ترامب نائبه مايك بنس الذي وقّع اتفاقاً مع أنقرة، يسمح لتركيا بموجبه بالدخول إلى سوريا وإقامة منطقة آمنة تحت سيطرتها. وإذا كانت موافقة ترامب على عملية “نبع السلام” هي المحطة الإيجابية الوحيدة لمصلحة تركيا، فإن الأخيرة تعرّضت، في عهده أيضاً، لضربات أميركية ثقيلة، أبرزها إخراجها من برنامج مقاتلات “إف-35” المتطورة، على خلفية شرائها صواريخ “إس-400” الروسية. لكن الأهمّ أن واشنطن طوت صفحة الانسحاب وأبقت على جنودها، إلى أن أتى جو بايدن رئيساً في العام التالي.
وفي غمرة تشكيل الحكومة الأميركية الأكثر صهيونية، لا يزال وزير الدفاع التركي، ياشار غولر، يراهن على انسحاب القوات الأميركية من سوريا. وهو قال، في حوار تلفزيوني، الثلاثاء: “في فترة رئاسة ترامب الأولى، أعلن ثلاث مرات أنه سينسحب من سوريا. وأنا الآن أقف بشدّة إلى جانب هذه الإمكانية”.
لكن رهان تركيا على عهد ترامب الجديد، والعيش في ذكرى يتيمة من الماضي، يتزامن مع متغيّرات هائلة في الظروف والتوازنات، في ظلّ احتدام الصراع واتساعه في الشرق الأوسط. وإذ لا يتوقّع أحد أن يتراجع الدعم الأميركي الكامل لإسرائيل، فإن عداء ترامب لإيران وسعي إسرائيل إلى شرق أوسط جديد من دون “حماس” و”حزب الله” والقوة النووية الإيرانية، يضع الموقف الأميركي من سوريا وفقاً لرغبات إسرائيل بالكامل، والتي ترى في الموقف التركي منها عدائياً بالكامل، وخصوصاً مع تحذير إردوغان من خططها التوراتية التي تستهدف تركيا أيضاً. ويعني ذلك أن ترامب الثاني لن يذهب في اتجاه أيّ إجراء لمصلحة تركيا في سوريا، ومنها انسحاب القوات الأميركية من هناك، أو السماح لها بالقيام بعملية عسكرية جديدة ضد الأكراد في شرق الفرات.
وعلى الرغم من كل هذه الأجواء السلبية تجاه تركيا، فإن مركز دراسات “سيتا” التابع لـ”حزب العدالة والتنمية” ناقش في جلسة “عصف فكري” خيارات متعدّدة، منها أنه “إذا انسحبت القوات الأميركية من سوريا، فإن خيارين في سوريا ممكنان: إمّا أن تملأ إيران وسوريا وروسيا الفراغ، وإمّا أن تملأه تركيا”، علماً أن خيار التعاون مع سوريا وإيران وروسيا ليس من ضمن الخيارات التي تطرّق إليها الباحثون. ويقول الكاتب محمد علي غولر، في “جمهورييات”، إنه “في حال انسحاب الجنود الأميركيين، فعلى تركيا أن تطوّر استراتيجية تشمل أولاً الاتفاق مع الأسد، وثانياً تعميق التعاون مع روسيا وإيران في إطار شراكة أستانا”.
صحيفة الأخبار اللبنانية