أحلام بيروت : ))خطيفة(( .. إلى شارع الحمرا!

أدهشني شارع الحمرا . ليس لأنه تحفة الأسواق، بل لأن محطتي الأولى في نهايات الحرب الأهلية كانت في منطقة أجهل اسمها حتى الآن . كانت شبه مهدمة، تقع على أطراف ساحة البرج، وساحة البرج صورة لاتمحى في ذاكرتي لمكان يضج بالحركة، ولها علاقة بالبوسطة التي نقلتني ذات يوم إلى برج حمود !

وصلت إلى فندق في منطقة معارك كانت هدأت منذ شهرين. قال لي صاحبه إن أجرة الليلة الواحدة 5 ليرات لبنانية، فأحسست أن المبلغ عادي، وعندما دخلت إلى غرفتي وجدت أن قذيفة مزقت الجدار الشرقي، وقد سدت الثغرة بأحجار مختلفة الحجوم، وشاهدت قبالة الشرفة بقايا دماء على الجدران، ولم أعثر على حمام وماء . قال لي صاحب الفندق : المياه مقطوعة. نحن نعطيك سطل ماء وأنت تشتري مياه الصحة للشرب !

فررت من الفندق، وأستنجدت بسائق سيارة عابرة لكي يرشدني إلى الحل، فقال لي : إذهب إلى منطقة الحمرا ! ثم دعاني بإلحاح :

ــ اركب .. اركب .. من أتى بك إلى هنا ؟!

منذ ذلك الوقت أحببت شارع الحمرا، فهناك نمت ليلتي الأولى في فندق جديد وصغير اسمه البرج الفضي، وكانت أجرة الغرفة 25 ليرة لبنانية، وكانت تلك الغرفة جميلة وتستحق هذه الأجرة (المرتفعة) ..

حلمت وأنا نائم فيها أنني عدت إلى منطقة الدورة وبرج حمود والنبعة، وأنني صافحت الملكة جورجينا رزق وأنني تعرفت على الكاتب الذي أحبه سعيد فريحة بل وجدت نفسي في الحلم وقد صرت كاتبا معروفا مثله، وحلمت أيضا أنني لم أكن عاملا في غاليري يزوره الفنان شوشو بل كنت أرتدي أجمل ثياب في لبنان من الشارع الأكثر شهرة في ذلك الوقت !

في الصباح : شربت قهوة وتناولت إفطار الفندق، ثم نزلت إلى الشارع واشتريت صحيفة الأنوار ومجلة الشبكة، وعدت للقراءة في غرفتي خائفا عليها وعلى أناقتها وهدوئها، قرأت وبحثت فلم أجد سعيد فريحة في الأنوار، ولا جوجينا رزق في الشبكة.

رميتهما جانبا، ونزلت إلى الحمرا من جديد فاشتريت ثيابا مناسبة، وعدت بها أنيقا إلى دمشق، ولم أتوقع أنني سأعود إلى بيروت بعد أقل من شهر في الثياب الجديدة نفسها .

ففي دمشق تعرفت على فتاة جميلة في حوض السباحة، كانت تدرس مع صديقة لي، ثم شغلتنا الثرثرة عن السباحة، فأخبرتني أنها تعشق بيروت، وقلت لها إنني أيضا أعشق بيروت، فقالت بسرعة : ــ هل تأخذني إليها ؟

بهذه السرعة تم توقيع الاتفاق بيننا. جمعتنا بيروت، وستفرقنا بيروت إلى الأبد.. كان في اعتقادي أن المسألة انتهت عند الثرثرة المفتعلة من كلينا جانب الحوض الذي كنا نسبح فيه. إلا أن الفتاة طرقت بابي بعد أقل من أسبوع، وطلبت مني الاستعجال لأن السيارة تنتظرنا للذهاب .. للذهاب إلى أين ؟ ببساطة إلى بيروت!

نعم . هكذا فعلت المجنونة .. أمسكتني من يدي وأخذتني إلى بيروت فعلا في رحلة غريبة سوف لن أنساها أبدا، فأحيانا تقوم المفاجأة مقام الضربة على الرأس فلا يصحو صاحبها إلا بعد وقت طويل، وأنا صحوت بعد يومين، أقمنا خلالهما في الفندق نفسه في شارع الحمرا، بعد أن تفهم موظف الفندق موقفنا لأننا (خطيفة) كما ادعينا، ولم أخبرها بزيارتي الأولى للفندق وأحلامي الساذجة فيه .

كنا هادئين وكانت الفتاة لطيفة ناعمة حنونة .. كنا نمضي الوقت في الغرفة بعد أن نتعب من التجوال، وهناك حكت لي أنها تزوجت من عجوز أردني ثري ثم وفرت منه، وأنها أحبت شابا رياضيا سوريا في الفريق الكروي ثم تركته لأنه خانها.. قالت لي : كان يخونني ببساطة ، ولا يسأل عن أحاسيسي، وسألتني : ألا تبقى معي، ونعيش هنا؟!..

وكنت أهرب من تفاصيل قصتها إلى قصتي، فهل أنا قارب نجاتها الأخير؟!

تلك الأيام الثلاثة من أيلول عام 1977 التي قضيناها معا جعلتني أتعرف على أشياء كثيرة في الحياة، لكني تعرفت أيضا على روعة أسرة من سكان بيروت، وكان ذلك في بيوت تتوزع عند شاطئ البحر..

استضافتنا في اليوم الثالث أسرة كريمة عندما أخبرناها بأننا ((خطيفة))، ونريد الزواج، وكان أول عمل قامت به هو فصل كل منا عن الآخر، ثم طرح الأب استدعاء أهل الفتاة ليتكفل هو بالباقي !

كأن الله أرسله لنجاتي، فقد استجبت لطلب هذه الأسرة، وأعدت الفتاة إلى أهلها، ولم يكن هناك من داع ليتكفل الرجل بالباقي، فقد ضاعت الفتاة بعد ذلك مني مثلما ضاعت من الثري الأردني العجوز ومن نجم كرة القدم السوري.. لم أشاهدها سوى مرة واحدة بالصدفة، كانت قد وجدت حلا لتمردها والرد على خيانة من تحب ردا قاسيا جدا .. كان ذلك الرد مخيفا، فقد انتمت إلى شبكة من شبكات الدعارة!!

حاولت أن أنسى بيروت، فلم أستطع .. كانت بيروت بانتظاري .. نعم كان ذلك في ((جمهورية)) الفاكهاني وعالم الصحافة هذه المرة ..

يتبع ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى