أحلام جيل منكسر ‘حكاية مغربية’ للبشير الدامون
يعد الروائي المغربي البشير الدامون من الأسماء الحاضر بقوة في المشهد الروائي المغربي الحديث. فعلى الرغم من أن رصيده الروائي لا يتجاوز أربع روايات، فقد تميزت أعماله بصياغة وبناء سردي متميزين منذ رواية الأولى «سرير الأسرار» 2008. وتوالت أعماله الروائية بنفس الصياغة والأسلوب وهي رواية «أرض المدامع» 2012، رواية «هديل سيدة حرة» 2015، رواية «حكاية مغربية» 2017. إن الخيط الرفيع الذي يجمع بين أعمال البشير الدامون الروائية من خلال قراءاتنا للروايات هو الغوص في أعماق المجتمع والكشف عن خباياه. وهو بدوره غوص في أعماق الإنسان المغربي/العربي سواء في الأحياء الشعبية أو الراقية، قصد تفكيك مختلف العلاقات الإنسانية المختلفة وما يشوبها من صراعات واختلال. وكذا من آمال وآلام في الوقت نفسه. وما تعرفه من أحلام وانكسارات نفسية وجسدية.
أغلب شخصيات هذه الروايات مسحوقة بآلة التهميش والفاقة، وضحية للفساد ومافيا المخدرات. تتميز علاقات شخصيات هذه الروايات الاجتماعية بالتنافر وسط الحي السكني الواحد. لكنها في الوقت نفسه تسعى لبناء علاقات الألفة والحميمية النادرة. ولعل هذا التنافر والحدة في العلاقات قد جعلا المتخيل السردي يتميز بالعنف. لارتباطه بشخصيات هامشية تصارع من أجل البقاء، باستثناء رواية «هديل سيدة حرة» التي هيمن عليها الجانب التاريخي. وإذا كانت هذه الخاصية حاضرة في جل أعمال الروائي البشير الدامون السابقة، فهل تعد كذلك خاصية روايته الأخيرة «حكاية مغربية»؟
هذه الرواية
تسرد رواية «حكاية مغربية» (منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 2017)، حكاية الشخصية المحورية أسماء. الفتاة اليافعة العجفاء. تقطن حيا شعبيا مع عائلتها بمدينة تطوان ابتداء من سنة 1984. حيث ستعرف هذه السنة بعض الاحتجاجات الاجتماعية. سيعتقل على إثرها أخوها حسن التلميذ اليافع الذي فرض عليه بعض المحتجين فتح خزنة حديدية تم إخراجها من وكالة بنكية. لكن حبّها لأخيها الذي كان يدرس في معهد التكوين المهني وإحساسها بالمسؤولية تجاه عائلتها المكونة من أب وأم وأخ صغير والأخ المعتقل سيدفعها رغم صغر سنها (18 سنة) لمحاولة التدخل من أجل تخفيف الحكم عنه أو تبرئته. لكن محاولتها تلك ستؤدي ثمنها غاليا حيث ستغتصبها شخصية القاضي التي وعدتها بالتدخل لتخفيف الحكم عن أخيها وتفقدها بكارتها.
لم تكن الساردة، (شخصية أسماء) قد شفيت من صدمتها الأولى حين حكم على أخيها بعشرين سنة سجنا، حتى تصدم مرة ثانية وذلك عند زيارتها الأولى له بالسجن، إذ اكتشفت أنه قد تم اغتصابه هناك وتم استغلاله جنسيا لدرجة أن مغتصبيه زينوا يديه وقدميه بالحناء كما يحتفل بالعروس ليلة دخلتها. فكانت الصدمات قوية على نفسية الفتاة ممّا جعلها تعاني من تمزّق نفسي وقلق موجع خاصة وأنها لم تكن تملك ثمن العلاج لدى طبيب نفسي.
وعلى الرغم من هذه الظروف القاسية فقد قادها التحدّي لتواصل دراستها بنجاح إلى أن حصلت على الإجازة. لكنها ستواجه مرة أخرى البطالة. لن تنفعها الاحتجاجات مع المعطّلين بل كانت سببا لتكتشف الفساد والمحسوبية التي تنخر المجتمع. وأمام فقر عائلتها ستضطر للذهاب للعمل بالتهريب بباب سبتة حتى توفّر مصارفها وتساعد عائلتها وخاصة الأخ السجين. لكن تحرش أحد حراس الحدود الجمركية وإلحاحه عليها، جعلها توقف عملها بباب سبتة لتلجأ للعمل كخادمة لأم مهربة كبيرة للمخدرات (شخصية حنان) تتزعم شبكة دولية. مما سيجعلها تكتشف عوالم خفية غريبة كما أنها ستتمكن من الحصول على غير قليل من المال. أمام مغريات هذا العالم الجديد، ستستدعي أخاها الصغير (شخصية كريم) ليشتغل مع هذه المهربة حيث سيغتني هو كذلك وسيعيش علاقة عاطفية مع مشغلته في غياب زوجها (شخصية الأقرع) الذي يقبع في السجن. كما ستكتشف شخصية أسماء العلاقات المريبة التي تجمع كبار مهربي المخدرات مع بعض رجال السلطة والقضاء والسياسة. حيث ستضطر إلى إيصال مبلغ رشوة كبير من مشغلتها إلى ذاك القاضي الذي كان قد اغتصبها من قبل.
وحين يخرج زوج حنان (شخصية الأقرع) وهو من كبار المهربين من السجن، سيعذب أسماء متهما إياها بأنها قد استقدمت أخاها كريم لدى زوجته حنان وأنها ليست سوى قوادة. سجنها بقبو الفيلا الكبيرة لأيام وظل يعذبها ليل نهار إلى أن انهارت نفسيا، مما سيؤدي بها إلى مستشفى للأمراض العقلية لمدة شهرين. حيث ستلتقي بمريضة عاشقة للشعر وبممرض خدوم سيجعلانها تزرع الأمل في نفسها من جديد من أجل تقبل حياتها. وكأن السرد يعود إلى بدايته بشكل دائري.
سيرة أحلام جيل منكسر
إن رواية «حكاية مغربية» هي بمثابة سيرة جيل عانى البطالة والتهميش. تقول شخصية أسماء في الصفحة 47 «كنا نجعل من الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات في الشوارع وأبواب النقابات مناسبة لنخفف ما بأنفسنا. نواسي بعضنا بعضا. أغلبية المعطلين ينحدرون من أوساط معوزة». جيل يحلم بالتغيير والرقي المادي والمعنوي، لكن أحلامه وآماله انكسرت وهي تصطدم بواقع قاس اندحرت بسببه هذه الأحلام. هكذا يرسم لنا الروائي البشير الدامون شخصيات واقعية نابضة بالحياة.
فعلى الرغم من كون رواية «حكاية مغربية» تنبني على شخصية محورية تتجلى في شخصية أسماء المليئة بالأحلام من أجل تغيير ظروف عائلتها. تقول الساردة «تابعت الدراسة بنجاح، وحصلت على الإجازة. كنت آمل أن ألتحق بمعهد تكوين المعلمينة» (الصفحة 45). فإن حكايتها تتشظى على طول المسار السردي لتكشف عن حكايات مغربية وحيوات شخصيات عديدة منها: شخصية أحمد قيدوم المعطلين كما ينعته المعطلون وأحلامه وصراخه الذي لا ينتهي «قيدوم المعطلين هذا كان حلو المعشر والحديث. وقفة احتجاجية من دونه تمرّ دون طعم. كل وقفة وهو معنا كنا نستغلها لنعرف ما جد من أحداث الفساد» (الصفحة 47). وشخصية الشاعر محمد الذي يعشق الشعر إلى حد الجنون. وحديثه الذي لا ينتهي عن الحقوق المهضومة والدماء المهدورة لشعوب وأفراد من مختلف بقاع العالم. تقول الساردة في الصفحة 53 «في لقائي الأخير به حدثني عن الحقوق المهضومة، والدماء المهدورة لشعوب وأفراد من مختلف بقاع العالمة». وهكذا تتناسل وتتوالد حكايات شخصيات متعددة: شخصية أحمد، شخصية محمد، شخصية حسن، شخصية كريم، شخصية بدرية، شخصية سعيد (الممرض). شخصيات خرجت من رحم الحرمان والمعاناة، فكانت حكاياتها بمثابة سيرة جيل تحطمت أحلامه وتراكمت هزائمه النفسية.
حين تحاول شخصيات الرواية تغيير مصيرها تواجه خيارات عدة: ممارسة المحظور أو الخيانة الخ. أما الشخصيات التي ترفض هذه الخيارات، فكان مصيرها أكثر مأساوية: الجنون والتشرد كما هو حال شخصية أحمد «كرهت الاحتجاجات والتظاهرات يوم التحق بنا خاي أحمد. الفساد وعلامات اضطراب نفسي بادية واضحة عليه. وقف بيننا وصرخ بشدة وبهستريا: لا من ينهى ولا من ينتهي.. لا محاسب ولا مراقب. اضطر بعض الشباب للتدخل وسحبه خارج الحلقة» (الصفحة 53).
وأخرى تتكدس بها مصحات الأمراض العقلية. تقول الساردة في وصفها لحالة مرضى المصحة «تؤلمني حالة المرضى المتشنجين الذين تنتابهم حالات هستيريا أو نوبات رهاب رهيب بعض المرضى كنت أغبطهم، إنهم سارحون غير مكترثين بما حولهم وكأنهم طلقوا الحياة وأنواءها» (الصفحات 155-156).
لكن تبقى شخصية السارد المحورية (شخصية أسماء)، على الرغم من كونها تظهر وتختفي عبر المسار السردي للرواية، حاضرة بقوة. إنها تذكرنا بالشخصيات التي رسمها الكاتب الفرنسي أندريه مالرو في بعض رواياته، خاصة روايته «الشرط الإنساني» شخصية تختزل المعرفة البشرية والتجربة الحياتية الغنية وتحلم انطلاقا من ذلك بأن تغيّر البشر والعالم. إنها الشخصية الكلية حسب تعبير ماركوز التي تعبّر عن حركة الواقع الجوهرية التي لا يراها الآخرون. كما تضع هذه الشخصية أمامها مهمتين أساسيتين: الكشف عن هذه الحركة أمام عيون كل البشر من جهة. والعمل على قذفهم في أتونها من أجل خلق عالم جديد.
من الانكسار إلى التجاوز
تمنحنا شخصية أسماء والشخصيات الأخرى التي تدور في فلكها بنية فكرية توازي مفهوم الوعي القائم كما حدده لوسيان غولدمان. يرتبط هذا الوعي بالحالة القائمة على جميع مستويات الحياة لكنها تتميز بالسلبية، بحيث يكشف هذا الوعي عن ذات (ذوات) مأزومة نظرا لارتباطها بظروف عامة مأزومة وسلبية في الوقت نفسه. لكن هذه الذات لا تستكين لهذه الأزمة والوضع القائم السلبي بل تعمل على تجاوز هذا الوضع المأزوم بطرق عدة من خلال خلق علاقات جديدة مع أمكنة وشخصيات أخرى وخلق وعي جديد يندرج ضمن الوعي المفروض وضمن بنية مجتمعية عامة ( اقتصادية، سياسية، اجتماعية، وثقافية). إذ تؤثر هذه البنى كما يرى غولدمان، بعضها على بعض، لتتداخل ضمن بنيات تاريخية واجتماعية عامة. فشخصية أسماء (الشخصية المناضلة)، حين حاولت التجاوز، أرغمت على بناء وعي جديد يساير بنية الوعي العام للمجتمع (المنافي لوعيها السابق)، فاشتغلت بالأعمال الممنوعة: تهريب السلع بباب سبتة «نجية التي كانت تقوم بسياقة السيارة أشارت لي منذ اليوم الأول من العمل أننا محظوظتان ما دمنا نملك عربة نخرج بها السلع المهربة» (الصفحة 58)، العمل مع عصابات تهريب المخدرات (شخصية حنان) «صرت مساعدة ثقة للمرأة، أصبحت أشاركها بعض أسرارها. حنان إلى جانب قيامها بعمليات التهريب كانت وسيطة لتجار المخدرات» (الصفحة 102). لكن هذا الوعي الجديد لم يساعد شخصية أسماء على تحقيق التجاوز، بقدر ما عرفت مرة ثانية نوعا من الانكسار النفسي قادها إلى مستشفى الأمراض العقلية. تقول الساردة في الصفحة 151 «أشباه المجانين أمثالي معذبون يستميتون على التشبث بالحياة رغم عذاباتهم ورغم الاكتئاب الحاد ورهاب الجنون. أغبط الناس الذين لا يأبهون للحياة وأنوائها. كأن أفئدتهم من حديد. تمر الحياة بمصائبها وكأنها تمر بجانبهم وليس على أرواحهم». انكسار نفسي، ستحاول الشخصية تجاوزه بعد مغادرتها المستشفى في آخر النص الروائي. تقول شخصية سعيد (الممرض بالمستشفى) «شمس اليوم رائعة السطوع. تغسل الأنفس المكدّرة. ستشفين حين تعتبرين الخوف من الجنون عدوا وصديقا. لتكن أحلامك أحلاما بالشفاء، فالعالم قاس دون حلم، نوباتك احتجاج داخلي على ما عشته وتعيشينه، فجرّي احتجاجك على الملأ ووجهيه نحو طريق سليم» (الصفحة 159). وهذا يبقى نص «حكاية مغربية» محكوما ببنية الانكسار والتجاور بشكل مستمر لا يعرف التوقف. تتناسل من خلاله حكايات مغربية أخرى، ولعل هذا ما جعل السارد يختم الرواية بهذه الجملة «احكي حكايتك إنها جديرة بأن تسمع» (الصفحة 159). وعلى الرغم من محاولات التجاوز، يبقى الانكسار حاضرا بقوة.
انكسار الروح
رواية «حكاية مغربية» للبشير الدامون حكايات شخصيات عاشت انكسارا روحيا من خلال القمع الفكري والفساد السياسي مروراً بالطبقية الحثيثة ومرارة الهزيمة والانكسار النفسي ودائرة الإحباط المغلقة وقصص الحب الحالمة والانتهازية والمتاجرة بأحلام الطبقات الفقيرة. كل هذا يضعها في قلب هذه الرواية التي شكلت سيرة أحلام جيل منكسر بكل ما تحمله من مشاعر وتفاصيل ومآس وأحلام. كما تصور الحالة الداخلية لنفسية الشخصيات من أجل إبراز الفجيعة وعمق الجرح الذي في النفس نتيجة الهزيمة. وبهذا يكون الروائي البشير الدامون قد رسم لنا شخصياته بمهارة فنية عالية. كما تميزت بلغتها السردية المنسابة بعفوية كبيرة والمشحونة بشاعرية جميلة. وبهذا تكون هذه الرواية إذا استعرنا العبارة من الروائي عبدالرحمن منيف من الروايات التي تقول همومنا وأحلامنا وليست كالتي تستعير أصابع الآخرين من أجل الكتابة.
مجلة الجديد اللندنية