حقّقت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي مكانةً خاصة لها في الأدب حال ظهور كتابها الأشهر «ذاكرة الجسد» (1993)، الذي اجتاح الوسط الثقافي العربي وقدّمها كروائية ذات روحٍ خاصة وحازت عليها «جائزة نجيب محفوظ» (1998) كأفضل رواية عربية، فضلاً عن ترجمتها إلى لغات عدة كالصينية، الإنكليزية، الفرنسية، والكردية وسواها. لاحقاً، أتبعت الرواية بجزأين «فوضى الحواس» (1997) و«عابر سرير» (2003) كانتا بمثابة تكملةٍ للقصة وإن لم تكونا في مستوى الرواية الأولى. الكاتبة/ النجمة سرعان ما أضحت كاتبة مقالات، وصارت لها مقالة أسبوعية في عددٍ من المطبوعات العربية، ولكنها لم تكفّ عن إطلاق الروايات ولو «تدهور» مستواها، فباتت أشبه بكتابة الخواطر. أصدرت أعمالاً عدة بعناوين مثل «نسيانكم» و«الأسود يليق بكِ». حتى إنها قرضت الشعر في كتاب «عليك اللهفة» (2013) الذي كان مشابهاً لأعمالها الأخيرة معنى ومضموناً. وها هي اليوم تغوص في عالم السيرة، وتقدّم كتاب «أصبحتُ أنتَ» (نوفل) كرواية لسيرتها الشخصية.
الطباعة أنيقة، والغلاف مصممٌ بعناية تزيّنه صورة مستغانمي على الغلاف الأمامي، وصورة والدها محمد، على الغلاف الخلفي، مع استشهاد (على الغلاف الخلفي كذلك) بكلمات الرئيس الجزائري أحمد بن بلة (1916 ــ 2012) الذي مدح مستغانمي كعروبية و«كشمسٍ جزائرية أضاءت الأدب العربي ورفعت بإنتاجها الأدب الجزائري إلى قامة تليق بتاريخ نضالها». بدءاً من اختيار العنوان وتقديم الكتاب، يظهر تأثر الكاتبة بوالدها وهي تهديه الكتاب بحزن بالغ: «ما جدوى ما أكتب ما دام ليس في المقابر مكتباتٌ ليقرأني أبي». في الوقت نفسه، هي تهدي والدتها الكتاب على شكل صراع وإن كان خفياً: «أمي، أهديك هذا الكتاب، مطمئنةً أنكِ لن تقرئيه، ولن تحاسبيني عما جاء فيه، اعتبريه هدية متأخرة من أبي، فلا تواصلي معاتبته (هناك). برغم كل شيء، لقد أحبّك…». ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، كل جزءٍ يأتي على فصول عدة. تروي مستغانمي حياتها على طريقتها. تحاول الغوص أكثر في عالمها الداخلي، فتحكي في الفصل الأوّل من الجزء الأوّل: «بعدك أصبحتُ أنت. أعدت اقتراف كل حماقاتك، خسرت بسخاء، وبسخاءٍ تهكمتُ على خساراتي. أكرمت أعدائي لأنّ لا قصاص أكبر من الكرم. أحببت كما لو كنتُ أنت، كذبت لأختلق لمواعيدي العاطفية ذرائع وهمية كما فعلت». تصلح هذه الجمل لنشرها كصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إنّها أقرب إلى الحكم منها إلى نصّ أدبي بحت. لكن مستغانمي نجحت في تكوين تلك الصورة حول ذاتها بأنها تكتب هكذا. فمن هنا يخلق هذا النص نوعاً من الارتباط مع «جماهير» تحب هذا النوع من الكتابة، وما وجود كتّاب مثل خولة حمدي (كاتبة «في قلبي أنثى عبرية») وسواها إلا مثال على أنَّ هذا النوع من الكلام «الموشّى» مرغوب لدى شريحة واسعة من القراء الذين يفضّلون التسطيح. تتناول التاريخ الجزائري المليء بالحكايات والأحداث وتربطها بحياتها الخاصة: «حدث ذلك من قبل، في زمن الأمير عبد القادر (وتقصد الأمير عبد القادر الجزائري الثائر المعروف)، الذي كان منذ شبابه يسافر إلى الحج، متبوعاً بقافلةٍ محملة بمكتبته، ولا يقصد أرض المعركة إلا مصحوباً بكتبه، وحين أرغم على الهجرة، حمل مكتبته بحراً وبراً من الجزائر إلى فرنسا ومن فرنسا إلى الشام.. لا أدري كيف استطعتُ إقناع جدتي باستقبال ثمانية مجلدات ما كان البيت ولا الظرف مهيأين لاستقبالها في زمن الأوبئة والمجاعة. ربما تقبّلت الأمر لأجلك، فقد كنت كل ما استطاعت إنقاذه من براثن الحرب والأمراض».
في الجزء الثاني، تسير الكاتبة الجزائرية ذات المسير، وتبدأ بالفصل الأوّل هنا مازجةً بين التاريخ والشخصي على عادتها: «كان التاريخ جارنا المهيب، بيننا وبينه مسافة رصيف، لكنني لم أعِ ذلك إلا عندما أصبحت أشاهد حيّنا في نشرات الأخبار المسائية». تربط هنا بين الأحداث التي عصفت بالجزائر في مواجهة المحتل الفرنسي، ولا تنسى أن تورد شخصياتٍ ذات ثقلٍ ملحمي من نوع الثائرة الجزائرية المعروفة جميلة بوحيرد: «فقد صنعت صبية جزائرية تدعى جميلة بوحيرد الحدث، وهي تدخل المقهى بأناقة أوروبية وتترك حقيبتها تحت الطاولة، فيسقط إثرها روّاد المقهى بين موتى وجرحى» في إشارة إلى عملية مقهى Milk bar الشهير الواقع في الجزائر العاصمة. هي لا تنسى أن تدمغ كل شيء، بتعليقاتها ذات البعد الشخصي: «في عجلة رحيلهم، تمنّى الفرنسيون لو أخذوا معهم موتاهم، أو حتى أسماء قتلاهم المحفورة على النصب التذكارية، فقد كان لهم إحساس بأن الحجر أيضاً سيتنكر لهم».
هل فعلاً تمنّى الفرنسيون ذلك؟ تلك هي لعبة الأدب عند مستغانمي، التي تستعملها في الكتاب كلما احتاجت. في الوقت عينه، تكتب الكاتبة لنفسها قبل الآخرين: تمدح نفسها، تربت على نفسها، وتصفق لنفسها حتّى: «النجاح الناقص الذي كوّن على حساب ما هو أساسي، يفسد أي فرحة، مهما كان الفوز عظيماً. كسبتُ التحدي، أثناء التزامي العائلي، كنت أواصل دراستي الجامعية وأقدم برنامجاً إذاعياً يومياً، وأكتب مقالاً أسبوعياً، وأيضاً أصدرتُ ديواناً شعرياً»! أو مثلاً حين تقول: «وجدتُ نفسي، لمصادفةٍ تاريخية، كاسحة للألغام، لا فتاة شقت طريق الضوء قبلي، في مواجهة تلك المدينة الذكورية، المتقصية لأخباري، المتربصة بأخطائي». اللافت في الكتاب، حين تتحدّث المشهد الثقافي في الوطن العربي، منذ وقتها وحتى وقتنا هذا: «بالنسبة إلى جيلي من الكتّاب المشبعين بالأفكار التقدّمية، كانت معركتنا أولاً ضد أدباءٍ مكرسين، تحولوا إلى ديناصورات جاثمين على الأدب بأفكارٍ رجعية، رافضين لنا حق الوجود، يحكمون السيطرة على اتحاد الكتّاب، وعلى كلية الآداب وكل المجالات الثقافية». إنها هنا تعرّي الحالة الثقافية لا في بلدها الجزائر بل في سائر المشرق والمغرب العربيين وهي الحالة المستمرة حتى اليوم.
أسلوباً، تحاول مستغانمي استنساخ تجربة «ذاكرة الجسد»، فتستخدم «الأقوال المشهورة» و«الجمل الشهيرة» لكتابٍ معروفين التي جعلت ما تكتبه قريباً من القرّاء. تأخذ من أسماء معروفة، غربية وعربية مثل فولتير، دوستويفسكي، وغسان كنفاني، ومريد البرغوثي، ورسول حمزاتوف، وأدونيس، وناظم حكمت، ومالك حداد… تستخدم هذه الأقوال بمثابة «قواطع» بين ما تكتبه وكنوعٍ من العناوين الداخلية لما تكتبه. لكن في «أصبحتُ أنت»، نجد ما ابتعدت عنه الكاتبة الجزائرية في أعمالها السابقة، إذ نعثر على قصص قصيرة للغاية مدموجة داخل نصٍ مسبوك بجمالية خاصة يستحق القراءة بنظر البعض، فيما قد يراه آخرون ثقيلاً بدون أي تقنيات كتابية. بعد الفصل الأوّل، يغدو الكتاب مكرراً معاداً، فيصبح مجرد سرد لأحداث تاريخية مع بعض التعليقات ذات البعد الحِكمي الطفولي.