أحمد المديني في لعبة الانفصام الروائي

ترسم رواية «ممرّ الصفصاف» (المركز الثقافي العربي) للكاتب المغربي أحمد المديني، وهي ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر، عدداً من المسارات المتقابلة والمتوازية. فالأحداث تتفرّع من حكايات ثلاث لشخصيات تتلاقى مصائرها في حيّ سكني واحد: بلعيد، غانم، جاك. العمارة الروائية تتوازى أيضاً في تطورها مع مشروع سكني قيد الإنشاء، فيشعر القارئ – إزاء البناء الفني للرواية – بأنه شاهد على تكوّن رواية أحمد المديني مثلما الشخصيات شاهدة على قيام حيّ جديد.

تبدأ الرواية مُبهمة. يُفتتح مشهدها الأول على شخصية المهرول، رجل غامض يُغادر بيته في «ممرّ الصفصاف»، أعلى حيّ الرياض، يومياً عند الساعة الثامنة والنصف. يصف الأشياء في مرورها العابر أثناء هرولته. يولي البصر أهمية قصوى في تحديد مواقفه من الأشياء. لا شيء يعنيه سوى «البحصصة والتلصّص» لالتقاط كلّ شاردة وواردة من شأنها أن تملأ كتبه بصور الحياة. فالمهرول هو في الأساس كاتب قرّر أن يُنجز رواية كاملة نتيجة نظرة خلّفت في نفسه الأثر الكبير. هكذا، تتضّح، صفحة تلو أخرى، معاني العبارة الدالّة مطلع الرواية «كلّ شيء يبدأ من النظرة، أو من نظرة»، لنتيقّن أخيراً أنّ نظرة عرضية أفضت إلى هذه الرواية الضخمة (373 صفحة). نظرة تشابكت فيها عينا المهرول بعينيّ كلب شريد.

في الفصلين الأولين، لا يُحدّد الراوي العليم (برانيّ الحكاية) هوية البطل، بل يُسمّيه المهرول مرّة والسيّد أحمد المديني مرّات أخرى. يعمل كاتباً وهو يحاول أثناء هرولته أن يستجمع ما يكفي من صور وأفكار ينظّمها في مخّه «ليعود ويسطرها على الورق». لكنّ الالتباس، أو ربما الصدمة تحدث حين نكتشف أنّ لهذا المهرول رواية معروفة عنوانها «رجال ظهر المهراز»، وهي رواية معروفة لأحمد المديني الذي أقسم يوماً أنّها ستكون روايته الأخيرة. لكنّ النظرة المتبادلة بينه وبين جاك، الكلب المسكين، جاءت معبأة بمعانٍ إنسانية قوية، فغدت المصادفة العابرة سبباً للكتابة من جديد «أحسّ أنّ عينيه بوابتان لا تنفكان تضيقان لتنغلقا على من يحاول العبور منهما… وفي هذا اليوم بالذات قرّر أن يشرع في كتابة الرواية الجديدة التي تنغل في مخه منذ أشهر، وبها سيحنث، وسيدفع كفّارة بعدما أقسم أنّ «رجال ظهر المهراز» ستكون روايته الأخيرة» (ص 47).

الكاتب وقرينه

هي ليست المرّة الأولى، بالطبع، التي نصادف فيها شخصية روائية تمتلك اسم المؤلّف وخصائصه النفسية والجسدية نفسها. ففي الغرب اشتهرت هذه التقنية مع كثير من الكتّاب أمثال بول أوستر وغيره. وعربياً، استُخدمت – وإن بكمّ أقل – في روايات تُعدّ «مريم الحكايا» ألمعها، وفيها أهدت علوية صبح اسمها إلى الراوية (علوية) لتُعيد – من خلال هذا الشكل الفني – تحديد العلاقة بين المؤلف والراوي، أي بين من يكتب ومن يحكي. لكنّ لعبة المرآة هذه تتخّذ شكلاً مغايراً عند أحمد المديني الذي يعرض شخصية راوٍ، اسمه في الحقيقة غانم، لكنّه يعيش فصاماً جعله ينتحل اسم الكاتب الحقيقي: أحمد المديني. هكذا يغدو البطل هو قرين المؤلف نفسه. ويأخذ التأرجح بين الواقعيّ والمتخيّل في رواية أحمد المديني شكل مدّ وجزر، لا يلبث أن يتكرّس في التدخّل المباشر للمؤلف حين يقحم نفسه داخل النص وفي حوارات الشخصيات: «قلت جئت للحسم، فأنا منذ مدّة أراقب الوضع. وضعكما. والحقيقة أني شرعت أيضاً في كتابة قصتكما وقطعت في ذلك أشواطاً، لكني اصطدمت الآن بمأزق، وأريد مساعدتكما. لا تستغربا، فمشروعي جدّي، وسأكمله كما أكملت مشاريع سابقة عليه، ولولا أنها المرة الأولى التي أجمع فيها الإنسان إلى الحيوان لما أشكل عليّ الأمر. ولكان المشروع انتهى منذ فصول» (ص 322).

راعى الكاتب معياري الموضوع والشكل، مع احتفاء مضاعف بالأسلوب. من هنا، ظلّت قصة «ممرّ الصفصاف» (حبكة، أحداث، عقدة) خافتة الوهج أمام بنية الشكل، علماً أنّها رواية زاخرة بموضوعات اجتماعية، من رصد الأجواء المدينية بأهلها وعمرانها إلى نقد الزيف الديني والتسلّط السياسي والجشع الاقتصادي.

الرواية متعددة الصوت، وتقوم على مستويات سرد مختلفة. ثمة راوٍ عليم خارج الحكاية، إضافة إلى ثلاث شخصيات تتناوب السرد طوال صفحات الرواية: بلعيد (حارس مسجد قيد الإنشاء)، جاك (الكلب الشريد)، غانم (المهرول أو أحمد المديني). وقد يعود السرد تكراراً إلى الحدث أو المشهد نفسه لتقديمه عبر ثلاث وجهات نظر مختلفة (وصف حيّ الرياض مثلاً)، وهذا ما يُعرف بـ «المشهد التكراري» الذي ينتمي إلى البيان السردي.

يبني أحمد المديني فضاء روايته من خلال الوصف المكاني لحيّ سكني جديد في مدينة الرباط المغربية، لكنه لا يقتصر على الوصف، بل إنه يغوص في أبعاد المكان السوسيولوجية والأيديولوجية، فيصوّر جشع المقاولين ومستثمري الأراضي، وينتقد خطيب الجامع وأصحاب «المخزن» (ممثلو السلطة والشرع) الذين يجندّون نواطير العمارات رجال استخبارات لهم: «عليكم أن تعرفوا النملة من أين تبوّل وإلّا استبدلناكم».

من الهامش

يختار الكاتب شخصيتين من القاع ويمنحهما بطولة العمل، بل إنه يسلّمهما مهمة نزع القناع عن وجه مجتمع مزيف. أحدهما هو الحارس بلعيد، الآتي من دوّار الحفرة في ضواحي الرباط إلى حيّ الرياض الراقي. وليس مصادفة أن ينتقي المؤلف هذه التسمية للمكان الذي ينتمي إليه بلعيد (دوّار الحفرة)، بل هو تقصّد إبراز البيئة البسيطة، أو الأصحّ السفلية، لهذه الشخصية. وبغية تجاوز ظروفه القاسية، يرضى بلعيد (الضعيف) بأن ينبطح أمام المستثمرين العقاريين (الأقوياء)، لكنّ استسلامه لا يشفع له، إذ سرعان ما يتخلصون منه طاردين إياه من مكان عمله. والثاني هو الكلب «جاك»، يختاره الكاتب سارداً يفضح من خلاله الطبيعة البشرية الفاسدة. كيف يرى الحيوان إلى أبناء البشر؟ سؤال تتضّح إجابته حين يُمسك الكلب طرف السرد، فيمنحه المؤلف مهمة الكلام، يُعطيه اسماً، يزوّده أفكاراً ومشاعر وأحاسيس. إنه يُشخصنه حتى يكاد يصير أكثر إنسانية من شخصيات أخرى في الرواية، فلا تبرز هويته إلّا حين يقول: «رقصت لهم بذيلي ونبحت أسلّيهم وأرحّب بهم في ذهابهم إلى المدرسة ولدى عودتهم منها…» (ص 50). هو أشبه بكلب أوسكار بانيزا في رائعته «يوميات كلب» الذي لا يتوانى عن نقد الآدميين في سلوكياتهم غير الآدمية على الإطلاق. إنسانية كاملة تسقط، بل تنهار، عبر نظرة كلب إليها: «الآدميون عديمو وفاء، ليسوا مثلنا، نحن بني كلبون، وهي تسمية عندهم شتيمة، يتهموننا بالشراسة، وهم الذين يتناهشون في ما بينهم، يأكل بعضهم بعضاً. أعرفهم، بتّ أعرفهم، أمس البادية واليوم في هذه الحاضرة… هل أزيد؟» (ص 325).

أمّا الراوي الثالث، وهو غانم أو أحمد المديني المتخيّل، فيفضّل عزلته وتقوقعه على الانخراط في مجتمع منهار القيم كهذا الذي يعيش فيه. هو يكتفي بالهرولة بعد اعتزاله الكتابة. لكنه يختار العودة إلى الكتابة، أو لنقل الحياة، بعد نظرة (تبادلها مع كلب) كانت أشبه بومضة حب التمعت وسط عالم مخرّب. كأنّ الروائي أراد أن يوظّف هذا المشهد رمزياً ليقول أنّ الكلب بوفائه قد يصير أقرب إلى الإنسان من أبناء جنسه ممّن ملأوا الدنيا خبثاً وفساداً. «أنت عندي أشرف من بو جمعة، ومن مول البركة الدجال، من جيران متكومين على مكرهم وأخلاقهم المغشوشة…».

قد تلفتك رواية «ممرّ الصفصاف» للكاتب المغربي أحمد المديني بفنية بنائها، لكنها تُقدّم برمزيتها صورة صادقة عن مجتمع عربي منفصم غدت فيه سلوكيات الإنسان أكثر توحشاً من الحيوان. رواية تخبئ خلف جماليات السرد والأسلوب قباحة عالم غارقٌ في مستنقع موحل.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى