أحمد فؤاد نجم.. مصر الشاعرة (عباس بيضون)
عباس بيضون
أحمد فؤاد نجم الراحل أمس شاعر كبير. نحن في العادة نتحسّس من أن نقول عن شاعر بالمحكية إنه شاعر كبير، لكن أحمد فؤاد نجم وقلة مثله أتاحوا لنا أن نقول ذلك باطمئنان واثق، هناك بالطبع تكنيات أخرى لأحمد فؤاد نجم. إنه شاعر الشعب وهو أيضاً شاعر الاحتجاج والتمرد، وهو، إذا ابتعدنا أكثر، مصر الشاعرة ومصر التراث ومصر الشعب، لذا نشعر حيال رحيل أحمد فؤاد نجم في هذه الأوقات بالذات بأن شيئاً من حياتنا نقص، بل نشعر نحن الذين عاصرنا احتجاج نجم، بأننا نطوي معه جزءاً من سيرنا الشخصية، إذ في كل منا طبعة من نجم وإيقاع، وأحسب أن كثيرين منا خامرنا أن ننزل إلى الشارع وأن نطلق أصواتنا بأغنية «مصر يمّه يا بهية».
تبدأ الحكاية بعد هزيمة حزيران 1967، كانت هذه ربيع الغضب والانكسار والكسوف والحزن المقهقه المغلوب، في هذه اللحظة ولد تحت فلك حزيران الخائب ثنائي من شاعر وموسيقي مغنٍ هو ثنائي الشيخ إمام عيسى واحمد فؤاد نجم.
تماهى الثنائي مع الجرح الشعبي والقومي والوطني، مزج بين راديكالية سياسية وخميرة تراثية فولكلورية شعبية، كان النقد السياسي في أرقى درجاته، يُقال بإيقاعات ومقامات موغلة في حياة الشعب وتراثه الفلاحي وفولكلوره الضارب في القدم وتلاوينه العامية وبلاغته الموروثة وتنويعاته النغمية وأداءاته العريقة وتاريخه الفني وأوزانه التاريخية. كل هذا التراث، بما أُنسي منه أو كاد أن يُنسى، بما تفرق وتشعّث في الأقاليم والمناطق، كان نصب عيون أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام بكل غناه وأطواره ومدارسه وبقاعه. كان تحت يد إمام ونجم، الأول يُغنيه والثاني ينظمه ويصوغه. هذا الغنى التراثي كان يتجدد ويترهّن وينسل ويتشقق عن روح جديدة وموضوعات ومقاربات وأجواء راهنة، لقد صبّ الثنائي في التراث المصري والشعبي الفلاحي دماً جديداً وجعلا منه، أي التراث، ليس ابن لحظته فحسب، بل ابن زمانه وساعته وعصره بكل ما في الكلمة من معنى، ولا أحسب أننا نجد فناً عربياً معاصراً بقدر ما نجده في شعر نجم وأداء الشيخ إمام.
يمكننا هكذا أن نقول إن أحمد فؤاد بتحنّكه الشخصي وتمرّسه بتراث شعبه ولغته قد قدّم حلاً لهذه الفجوة التاريخية التي تجعل الإرث الشعبي والتاريخي في تفاوت واضح مع مستجدات العصر، وتجعل الأخيرة منقطعة بالكامل عن تاريخ الشعب وكأنها من غير زمانه. هذا الحلّ الذي اعتمد المحكية الصادرة عن إرث حي أو ما زال حياً، قد يكون جواباً حراً على إشكال تاريخي. فأحمد فؤاد النجم المتمرس بالتراث إلى حد يجعله متلبساً له كان يسدّد دائماً إلى لحظات راهنة ويومية، بورتريهات ساخرة وغير ساخرة لأشخاص، تعليقاً مباشراً على أحداث، هجاء لفئات وطبقات، غناء وجدانياً مجروحاً لمصر وللمناضلين والشهداء. يمكننا أن نقرأ في شعر نجم يوميات مرحلة، وأن نجد فيه وثيقة تاريخية فهذا المرجع الفلاحي كان يوظف لأغراض غير فلاحية، بل هي أغراض جامعة ومدينية بهذا المعنى.
كنا نتعالى على الشعر الشعبي ونمجّ المباشرة والتحريض، فالمباشرة والتحريض يحوّلان الشعر إلى أمثولة وإلى درس وعظي. شعر أحمد فؤاد نجم الذي كان شعبياً بقدر ما كان مباشراً وتحريضياً، جعلنا نفهم أن المسألة ليست مسألة أساليب، إنها في الحساسية والأداء وزاوية النظر. شعر أحمد فؤاد كان أصيلاً في مباشرته وتحريضيته وحتى في شعبيته. لم يحوّل هذه إلى طلاء وإلى افتعال وإلى غناء براني، لقد كان حقيقياً فيها ونشعر فيها بجلده، بنفسه، بصوته.
كان الثنائي نجم ـ إمام منعطفاً فعلياً وليس فسحة عابرة. لا زال شعر الأول وغناء الثاني في خواطرنا وأفواهنا عند كل حدث وعند كل مناسبة، وما زلنا نجد في هذا الغناء وذلك الشعر نزيف قلوبنا ورعف وجداننا.