أخاف من الشرطة، وصاحب الطربوش!

تعود القصة إلى أواخر الستينات من القرن الماضي، ورغم أني أحاول أن أبدو شابا، إلا أن محاولتي مفضوحة، فكل ما أحكيه يدل تلقائيا على عقود من الزمن تجاوزت الستين !

سوف لن أكتب الكثير عن تلك المرحلة، فلا الذكريات حلوة ما فيه الكفاية، ولا الوقت يسمح لتصنيف تلك المعطيات على طريقة الوعاظ بحيث يستفيد منها الجيل القادم وخاصة: أكّاد وجالا (ابنتاي) !

في أواخر الستينات، لم يتمكن والدي الموظف من الفئة الثانية من دفع أجرة البيت، وكان صاحب البيت الذي يرتدي طربوشا أحمر ومعطفا يصل إلى ركبتيه متوترا حاقدا ملحاحا على هذا الزبون الذي لا يدفع، فهو يؤجر الكثير من البيوت ويتوقع أن ثروته الطائلة ستنقص إذا امتنعنا عن دفع الأجرة للبت الذي أجره لنا في الجسر الأبيض بدمشق.

رفع صاحب البيت دعوى في محكمة القضايا المستعجلة، وكأنه أراد أن يقول للقضاء إن المستأجرين تركوني بلا طعام عندما لم يدفعوا أجرة البيت، ورغم أن أبي عرف بقصة الدعوى، إلا أنه لم يحرك ساكنا، فمن أين سيأتي بأجرة المحامي أو حتى أجرة البيت التي زادت عن أجرة ستة أشهر، وكيف سيواجه الحكم بالإخلاء الذي لايمكن وقفه بحكم القانون.

بعد إنذار لم نستجب له، جاءت دورية الشرطة، طرق الشرطيون الباب بعنف، ومثل كل أفلام السينما ومسلسلات الدراما، رحنا نتطلع بوجوه بعضنا البعض، فأمي التي حكت لنا كثيرا عن الضبع الذي جاء أيام الثلج ليأكل جدتي في الضيعة، لاتخاف من الشرطة. وأبي، الذي شارك بالمظاهرات ضد الاستعمار وأعوانه وضد الانقلابات، لايخاف من الشرطة !

أما أنا وأخوتي وكنا صغارا (أربعة أطفال وبنتان)، فقد خفنا من الشرطة، أنا أخاف من الشرطة منذ ذلك الوقت: أخاف من طاقية الشرطة الحمراء والبيضاء والخاكية.. أخاف من البند المجدول على كتف الشرطي الذي ينتهي بصافرة نحاسية .. بل وأخاف من الشوارب ومن النظارة السوداء ومن الملفات القضائية كلها، من كل شيء يذكرني بالشرطة .. أحب كل الألوان وأخاف من اللون الخاكي!

لاتؤاخذوني .أنا أخاف من الشرطة حتى لو سلموا علي !!!

فتح والدي الباب، كنا خلفه نحتمي به.. شاهد الشرطة ومعهم أوامر الإخلاء، فباشره أحد رجال الشرطة بالقول:

ــ إن عليكم إخلاء المنزل خلال أيام لأن الحكم صدر وانتهى الأمر!!

فرد أبي :

ــ تعالوا بعد ثلاثة أيام خذوا البيت.

ومن بين رجال الشرطة، ظهر صاحب البيت بطربوشه الأحمر. كان يرتجف من الغضب والغيظ. تقدم نحو أبي، وراح يكيل لنا الشتائم:

ــ عيب عليكم .. ما بتستحوا .. ادفعوا أجرة البيت يانور !

أتعرفون ماذا فعل أبي ؟

خلع (الشحاطة) البلاستيكية من رجله، ولحق بصاحب البيت يضربه، ويرد عليه:

ــ يامرابي .. تريد رمينا في الشارع؟!

طار الطربوش، وتعثر صاحب البيت، وهو يتراجع تحت الضربات محتميا بالشرطة، وتراكض الشرطة حول أبي ردون القبض عليه وعلى الشحاطة ، وخرج الناس من البيوت .. صارت فضيحة !!

منذ ذلك الوقت وأنا أخاف من الشرطة، ومن الطربوش الأحمر، ومن شحاطة البلاستيك ، وأعاني من عقدة الاستئجار، حتى أنني فكرت جديا بأن أسكن في مغارة ، لكن للأسف قيل لي :

ــ حتى هناك سيأتي رجال الشرطة ومعهم رجل بطربوش أحمر، ويلحقون بك يريدون تطبيق القانون.

لذلك، أنا الآن أسكن في بيت غير مستأجر، هو بيت السيدة زوجتي ، وأخاف أن ترتدي ذات يوم طربوشا أحمر، ولكنها مهذبة بنت عالم وناس كما يقولون، وتسألني دائما عندما يسيطر علي الشرود : يالطيف ..وجهك مخيف.. بماذا تشرد !

وهي لاتعلم أن هناك كوابيس تأتيني بين فترة وأخرى أشاهد فيها الشرطة وصاحب الطربوش وهم يطرقون بابي بعنف ويريدون إخراجي من البيت.

ــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة : هذه صفحة من مذكرات أكتبها منذ سنوات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى