فن و ثقافة

أدب السجون السوري… رواية مضادة للتاريخ الرسمي

مروة جردي

لكل بلد تاريخان: التاريخ الرسمي، وتاريخ السجون فيه. في سوريا، إذا كانت للثورات ثيمة ثقافية تجسّد سقوط الأنظمة الاستبدادية، فإنّ فتح أبواب السجون والطرق على قضبانها قد يكون أقواها تعبيراً.

 

لكل بلد تاريخان: التاريخ الرسمي، وتاريخ السجون فيه. في سوريا، إذا كانت للثورات ثيمة ثقافية تجسّد سقوط الأنظمة الاستبدادية، فإنّ فتح أبواب السجون والطرق على قضبانها قد يكون أقواها تعبيراً. مشهد يختصر معنى التحرّر في صورة واقعية تستفز الخيال. خلال دقائق من إعلان سقوط النظام، تدفق الناس من السجون وإليها، بدوافع متنوعة: الفضول، البحث عن مفقود، الإفادة من الفوضى، أو الحصول على أوراق سيلمس أصحابها لاحقاً قيمتها.

عند أبواب السجون، يتقابل الظالم والمظلوم، والخصوم، وفي تلك الليلة، كان سجن صيدنايا بطل المشهد، جامعاً آلاف القصص الإنسانية، والأساطير، والتحقيقات الصحافية والمحتوى الرقمي، وحتى التمثيليات الأجنبية. واليوم، بعد قرابة عام على فتح أبواب صيدنايا وغيرها من السجون، تبدو اللحظة مناسبة لفتح الباب على ذاكرات أدباء وصحافيين وسياسيين، والقصص التي دوّنت داخل الزنازين. نستعرض هنا نماذج أدب السجون السوري، التي تنوّعت بين مذكرات ويوميات، وقصائد شعر، وروايات، ولوحات تشكيلية، وقصص رويت لاحقاً

عرفت سوريا السجون والكتابة عنها منذ أوائل القرن العشرين، عبر المذكرات والرسائل والقصائد المكتوبة عن تلك الحقبة. لكن مصطلح «أدب السجون» تأخر ولم يظهر في الفضاء النقدي السوري إلا عام 1973، حين تحول إلى أدب خاص تبلور تحت حكم «البعث».

في كتابها «أدب السجون السوري: بويطيقا حقوق الإنسان بالعربية»، تستعرض الكاتبة الأميركية من أصل إيراني ريبيكا شريعة طالقاني 13 عملاً روائياً وأربعة أعمال سينمائية صادرة في عهد الأسدين الأب والابن (منذ 1970). وتشير إلى أن مصطلح «البويطيقا» يعني أشكال التعبير الإبداعي المرتبطة بالسجن.

وترى طالقاني أنّ الواقعية الاجتماعية في سوريا أدت إلى تسييس مكثف للأدب، فصار أدب السجون شكلاً من أشكال مقاومة القمع، مقدماً رواية مضادة للتاريخ الرسمي مع الحفاظ على بُعد جمالي. وتشير إلى أنّ كثيراً من السجناء طوروا خلال فترات سجنهم الطويلة مهارات التأليف الشفوي داخل الزنزانة، تمهيداً لتدوينها لاحقاً. في المقابل، تعتمد التقارير الحقوقية على الخرائط والإحصاءات والتوثيق الجاف، ما يجرد هذه التجارب من بُعدها الإنساني والعاطفي، خصوصاً مع تطور التوثيق واستخدام الصور الفضائية لتحديد مواقع الانتهاكات. أخيراً، بدأت التقارير التفاعلية الرقمية تُدمج السجين كشخصية متكلّمة.

وفي قلب هذا المشهد، تبرز تجربة البراء السراج في كتابه «من تدمر إلى هارفارد: رحلة سجين عديم الرأي» (2011). يقدم السراج وصفاً دقيقاً لحياته في سجن تدمر، بلغة تصويرية، مدعومة بصور فضائية مأخوذة من «غوغل إيرث» لتصوير المبنى والزنازين وبيئة السجن.

يحكي كيف شكّل السجن مساحة للتأمل والصراع الداخلي، وكيف تمكن بعد خروجه بعفو عام 1995 من الانتقال إلى الولايات المتحدة والالتحاق بـ «جامعة هارفارد»، حاملاً معه ذاكرة السجن كجزء من حياته وعمله الفكري. بهذه الطريقة، يتحول أدب السجون من مجرد توثيق للأحداث إلى تجربة إنسانية متكاملة، تروي الألم، والإبداع، والصمود، وتحول الزنزانة إلى فضاء للحكاية والتعبير عن الذات.

الشرنقة الأولى: النساء خلف القضبان

قدمت الكاتبة والمعتقلة السابقة حسيبة عبد الرحمن أول نص لسجينة سياسية سورية، أثار جدلاً عند صدور روايتها «الشرنقة» (1995)، التي تروي تجربة الاعتقال السياسي في سجن دوما للنساء. ورغم أنّ أدب السجون السوري ركّز غالباً على سجون مثل المزة، وتدمر، وصيدنايا، فإن أهمية الشرنقة لا تكمن في ريادتها الزمنية فحسب، بل في جرأتها السياسية والسردية. رفضت الكاتبة تقديم بطلات خارقات أو خطاب تمجيدي للمناضلة النموذجية، ما أثار جدلاً عند صدور الكتاب.

في كتاب آخر، «خمس دقائق وحسب»، تقدم هبة الدباغ شهادة مفصلية عن تسع سنوات من الاعتقال بوصفها سجينة إسلامية اعتُقلت رهينة عن أخيها المسافر وبتهمة انتسابها إلى المنظمة نفسها. وفق ما جاء في الكتاب، قالوا لها: «ﻫﻴﺎ ارتدي ملابسك ستذهبين ﻣﻌﻨﺎ خمس ﺩﻗﺎﺋق ﻭﺣﺴﺐ».

تقول هبة: «هذه الخمس دقائق تحولت إلى تسع سنوات» ومن هنا جاء عنوان الكتاب الذي تجلب فيه هبة ألماً جديداً إلى طاولة أدب السجون، وهو الإفراج عنها عام 1989، لتكتشف أنّ كل أفراد عائلتها من عداد ضحايا مجزرة حماة.

يشبه النصّ الوثيقة الشخصية بقوة، لكنه يتجاوز التقارير الحقوقية حين يسجل الإحساس الأنثوي بالعزلة، التهديد، والنجاة. يكسر القيود على التعبير عن العنف الذي تتعرض له النساء داخل الجدران المغلقة، متجاهلة ضغط المجتمع على كتم هذه التجارب خوفاً من الوصمة.

أما «نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السوريات»، فقد اختارت روزا ياسين حسن أن تكون ناطقة باسم ذاكرة جماعية. اعتمدت الرواية على شهادات شفوية لسجينات من خلفيات سياسية واجتماعية متعددة، لتقدّم بانوراما نسائية فريدة لتجربة السجن السوري.

لقد وسعت السجينات الكاتبات مفهوم أدب السجون، من شهادات العذاب الفردية إلى الأنسنة والجماعة، حيث ترى السجينة العذاب الذي يصيب كل امرأة، وتتفاعل معه، وتقدّم مساءلة للبنى الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تنتج القمع. كما ركزن على جسدية التجربة، وهشاشتها، ومقاومتها اليومية.

تكمن أهمية هذه الأعمال في إدراج التجربة الجسدية والانفعالية التي يغفلها غالباً أدب السجون الذكوري، مقدمةً رواية مضادة مزدوجة: ضد السلطة السياسية وضد القوالب الاجتماعية التي تفرض صمتاً إضافياً على المرأة.

الرفاق: السجّان والمسجون

في السجن نفسه الذي أودع فيه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد رفاقه القدامى، قضى هو نفسه نحو أربعين يوماً مسجوناً فيه خلال فترة انفصال سوريا عن مصر. يمكن اعتبار هذه المعلومة مشهداً افتتاحياً مثيراً لفيلم عن السجون السورية، إذ أصبح السجن منذ ذلك الحين فصلاً ثابتاً في أي رواية تحاول استعادة ذكرى الرجل الذي حكم سوريا ثلاثين عاماً.

وفي سجن المزة القريب من القصر الرئاسي، كان يوجد جناح خاص برفاق «البعث»، أمثال صلاح جديد ونور الدين الأتاسي، وبعض العاملين السابقين في السجن تحدثوا عن معاملة خاصة، تضمّنت السماح لكل منهم بقضاء شهر سنوياً مع عائلته في مكان خارج السجن تحت الرقابة الأمنية.

خلال السنوات الأخيرة، تداولت وسائل الإعلام لقاء الرفيق السابق في حزب «البعث» عادل نعيسة الذي اعتقل بسبب قربه من جديد، ولم يتم الإفراج عنه حتى أواخر 1993، حين استقبله الأسد في القصر الجمهوري في لقاء كان مقرراً أن يستمر ساعة واحدة، لكنه امتد لأربع ساعات. بادر الأسد نعيسة بالقول: «أين شعراتك يا عادل؟»، فرد الأخير مبتسماً: «حالك يا أبو سليمان ليس بأحسن من حالي».

وبعد سنوات طويلة، أجاب نعيسة عن سؤال عما دار بينه وبين الأسد في ذلك اللقاء بالقول: «لقد كان حافظ يحاول بكل الوسائل أن يقنعني بأنه لو لم يعتقلنا، لقمنا باعتقاله وأكثر». وهو ما تكرر مع عضو القيادة القطرية، مروان حبش، الذي سجنه الأسد لمدة 23 عاماً. وبعد الإفراج عنه، جلس معه أيضاً لأربع ساعات عام 1994، وقال له «أبو سعيد أنت تعرف كم أحبكم، فأنتم رفاقي، ولكنها الظروف السياسية».

القصيدة كوثيقة: من ظلام سجن الريس إلى قتل الماغوط

على وقع بحث السلطات السورية عن نشيد رسمي بديل لنشيد «حماة الديار»، برز نقاش حول اختيار نص يمثل الهوية الجديدة للسلطة، بين من رأى في قصيدة الشاعر والسياسي السوري عمر أبو ريشة «في سبيل المجد» نصاً مناسباً، وبين من طالب بنشيد جديد مرتبط بالهوية الجديدة للسلطة. مع ذلك، يبدو أن السجون السورية حسمت قرارها منذ عقود، بالتوافق على قصيدة «يا ظلام السجن خيم… إننا نهوى الظلام» نشيداً للنزلاء فيها على اختلاف هوياتهم.

تباينت الروايات حول مؤلف هذه الكلمات؛ فقد اعتبرها بعضهم منسوبة إلى معتقلين انتسبوا إلى حركات إسلامية. لكن الحسم جاء في كتاب «نضال» لنجيب الريس، الذي كشف أنّ القصيدة كتبها من محبسه في سجن جزيرة أرواد مقابل مدينة طرطوس في أواسط عشرينيات القرن الماضي.

وتجربة السجن التي حولت قصيدة إلى نشيد، كانت مساحةً لصياغة الألم الإنساني ذاته، عند الشاعر محمد الماغوط، الذي يتحدث عن تجربة سجنه في المزة عام 1955: «أكلتُ كم لبطة (ركلة) وكم كرباج سوط، وتلقيت كفين على فمي. ومع ذلك أشعر بكل ذلك القهر لا من الضرب إنما من المبدأ». تظهر هذه الكلمات قدرة السجن على إنتاج تجربة إنسانية مركبة، حيث يقهر المعتقل من دون أن يتحول إلى جلاد، ويترك أثر الخوف والقلق في النفس، حتى ارتجف الماغوط عند سماع طرق على الباب قائلاً: «بفكّر جايين ياخدوني».

وفي قصيدته «القتل»، وثق الماغوط المشهد الداخلي للزنزانة «ضع قدمك الحجرية على قلبي يا سيدي… الجريمة تضرب باب القفص… حيث تصطك العيون والأرجل… وأنين متواصل يسيل في مجاري المياه الآسنة… لم نتحرك تلك الليلة، شفاهنا مطبقة على لحن الرجولة المتقهقر… في المقصورات الداخلية… ثمة عويل يختنق، وثمة بسالة مضحكة في قبضة السوط».

وفي مقابلة لاحقة، عندما سئل عن تأثير السجن على مساره الشعري، أجاب الماغوط على سؤال «هل كنت لتصبح شاعراً لولا سجن المزة؟» قائلاً: «اي، ممكن». فالصدق هنا، لا الألم، هو ما جعل منه شاعراً، وربما كان ليكتب شعراً أوسع وأعمق لو لم يترك الرعب أثره في جسده مدى الحياة. ومن هنا يمكن فهم العنوان الفرعي لكتابه «سأخون وطني»: «هذيان في الرعب والحرية».

سبت الدم لليسار… ولبناني لليمين

أدب السجون في سوريا مدين كثيراً لمجهود المعتقلين المنتسبين إلى الأحزاب اليسارية، وخصوصاً الشيوعية، الذين حرصوا على توثيق تجاربهم وتخليد ذكرى رفاقهم. ومن أبرز الأعمال التي قدمت في هذا السياق، لوحة التشكيلي يوسف عبدلكي بعنوان «دمشق – سبت الدم»، التي جسّدت عملية إعدام خمسة يساريين من مؤسّسي «المنظمة الشيوعية العربية» في صيف 1975. مشهد هزّ اليسار السوري من جذوره. هذا الحدث دفع السلطة إلى تعديل أسلوب تنفيذ الإعدام، فانتقلت من العلنية إلى مكان مغلق، بلا شهود، بلا قبور، ولا أثر.

تترافق ذكرى ذلك اليوم مع أعمال أخرى، مثل قصيدة الشاعر السوري نزيه أبو عفش «الله قريب من قلبي»، التي صارت جزءاً من ذاكرة الحدث، وجاء فيها ««اليأس قريب من قلبي… ورفاقي يتدلّون عراة كحبال القنّب… خمس نوافذ أُغلقت الآن… فنامي أيتها الوردة… خمسة شواهد تنتصب الآن على نحو دموي… خمس زنابق تهوي في الليل ولا تصل الأرض… فسلاماً أيّتها الوردة… خمسة أوتاد تتلكّأ في منتصف القلب… سلاماً لي… وسلاماً لبلادي… وسلاماً… لملايين الأعشاش المهجورة في منتصف القلب… سلاماً للوردة».

ومن اليسار إلى اليمين، شاءت الأقدار أن يوثق علي أبو دهن، جزءاً من حكاية المعتقلين الإسلاميين في سجن تدمر الذي حلّ عليه بعد تنقله بين عدد من السجون الأمنية. يذكر في كتابه «عائد من جهنم… ذكريات من تدمر وأخواته» احتجازه في إحدى الزنازين في سجن تدمر، تبين له بعدها أنها كانت ساحة لمجزرة صارت بحق المعتقلين الإسلاميين عام 1980. فقد كانت آثار الدماء والرصاص على الجدران والأرض، ما زاد المساجين رهبة فوق رهبتهم. الكتاب شهادة شخصية على وحشية السجون السورية، وقدرة الإنسان على النجاة رغم محاولات تكسير جسده وروحه.

مسيحي في جماعة الإخوان المسلمين

أخيراً، من عبثية السجون أن تكون كاتباً مسيحياً بالولادة تدرس الإخراج السينمائي ثم تدخل السجن بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين ولا أحد يكلف نفسه عناء سؤالك عن الموضوع. هذا ما حدث مع الكاتب مصطفى خليفة في روايته الشهيرة «القوقعة 2008» التي يتحدث فيها عن 13 سنة في السجن من دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه.

وهذا ما دفع ياسين الحاج صالح في كتابه «بالخلاص يا شباب: 16 عاماً في السجون السورية» إلى دعوة كل من مرّ بتجربة السجن بتوثيق حكايته، في ما يمكن اعتباره نداءً لتوثيق التاريخ الآخر للبلاد… تاريخ السجون وأقبيتها ومواجهة الوحوش التي تحدث عنها ممدوح عدوان في كتابه «حيونة الإنسان» حيث يحاول السجان جاهداً أن ينزل بالسجين بين يديه إلى مرتبة دونية غير إنسانية يمنح نفسه الإذن من خلالها بتعذيبه وقتله وإهانته.

وهذا الفعل قد يلخّص كل ما وصل إليه المجتمع السوري اليوم. ليس إنساناً من يهان أمامه إنسان آخر ولا يشعر بالإهانة. هكذا قالها مرة مانديلا وهكذا يمكن فهم أن لا يوجد ناجون في سوريا إلا من تمكن من حفظ إنسانيته.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى