أدونيس… فاتحة لنهايات الربيع العربي (يزن الحاج)

 

يزن الحاج

طوال نصف قرن، كان ولا يزال الأكثر إثارة للجدل. عودة إلى تجربة «مهيار الدمشقي» مع توالي صدور أعماله الشعرية الكاملة، وكتابه المرجعي «فاتحة لنهايات القرن». طبعة ثالثة تظلّ «راهنة» وفق ما يشير أدونيس في مقدّمتها «لأنّ طرق المقاربة والتحليل والوعي في الفكر العربي بقيت كما كانت» ولأنّ «ما نسمّيه الوطن آخذ في أن يتحوّل إلى ثكنة عسكرية، أو دسكرة طائفية، أو مخيّم قبلي»!
هل سيؤدي إصدار كتاب جديد لأدونيس إلى إشعال مزيد من الجدل؟ ليس هذا السؤال الذي ينبغي طرحه، بل: هل بقي ثمة متسع لمزيد من الجدل عن أدونيس ومعه؟ طوال أكثر من نصف قرن، كان أدونيس (1930)، ولا يزال (إلى حد كبير) الشاعر والمنظّر الأكثر إثارة للجدل في المشهد الثقافي العربي. تتزايد أهميّة هذه المسألة مع إصدار «دار الساقي» طبعة جديدة من كتابه «فاتحة لنهايات القرن: بيانات من أجل ثقافة عربية جديدة» وأعماله الشعرية الكاملة (راجع مقال الزميل حسين بن حمزة).
بالأحرى، تتزايد أهمية طرح السؤال المناسب. السؤال هنا، كما علّمنا أدونيس بنفسه عبر إشعال النيران في ركام الثقافة العربية والإسلامية: هل هناك أهمية أساساً لإعادة طباعة كتاب عن «ثقافة عربيّة جديدة» كانت طبعته الأولى عام 1980؟ إذا كان ثمة أهميّة لإصدار هذا الكتاب الذي يعود تاريخ أول بياناته إلى 1967، فهذا يعني بالضرورة بأنّ تلك الثقافة «الجديدة» لم تتبيّن ملامحها بعد، حتى بعد 57 عاماً على إصدار بيانها الأول. وهنا المعضلة الحقيقية التي كان ينبّهنا إليها منذ كتاباته النظرية الأولى. ربما كان هذا التزامن بين البيان الأول الذي يؤرّخ للهزيمة الكبرى في التاريخ العربي المعاصر، والطبعة الجديدة من الكتاب التي تترافق مع «الانتكاسات» المتلاحقة للانتفاضات العربية، هو البداية الفعلية التي ينبغي أن يبدأ منها أي نقد للكتاب، أو لأدونيس.
يمثّل أدونيس اليوم أحد أهم الأسماء الإشكاليّة في «زمن الانتفاضات». إنّه «رمز الثورة المضادّة» عند معظم الجيل الثوري الشاب والأسماء الثقافية الأبرز، بينما هو «البوصلة» لدى من تبقّى من «عقلانيّي» الانتفاضات. هذه هي الصورة العامة التي يروّجها الجميع تقريباً. لكن هل الصورة حقيقية فعلاً؟ ليس بالضرورة، فهذا «الجيل الثوري» لا يزال يحمل الفيروس «السلفي» القديم (سواء كانت تلك السلفية دينية أم علمانية). لا تزال ثقافة القطيع هي الثقافة السائدة حتى بعد الانتفاضات، بل لعلها تكرست أكثر، بخاصة بعد تحطيم الأصنام السياسية القديمة، وعبادة أصنام جديدة أكثر تحجّراً، لا سيما مع ترافقها مع ثقافة «ارتداد» يمثّلها المثقفون الذين كانوا بالأمس يحملون لواء التنوير واليسار والتقدم، ليستبدلوه بلواء «الطائفية الثورية». أما الطرف الآخر الذي لا يزال على ادعاءاته السابقة بكونه متمسّكاً بالعقلانية، فهو ـ حقيقةً ــ يتسم بموقف شديد الغموض (في أفضل الأحوال) من الاستبداد والعسكريتاريا العربية. لعل هذا التوصيف للمشهد الحالي ليس دقيقاً بما يكفي، لكن هذه الضبابية بذاتها هي ما تجعل لكتاب أدونيس اليوم هذه الأهمية.
قال الراحل ممدوح عدوان مرة إنّ أدونيس يتعامل مع السياسة بروح الشاعر. وهنا تكمن مشكلته. ربما كانت هذه العبارة الأكثر دقة في توصيف مواقف أدونيس السياسية، لكنها لا تصلح لتوصيف مواقفه النظرية في الثقافة، بخاصة في «فاتحة لنهايات القرن». أدونيس هنا شديد الوضوح في تنظيراته الفكرية- السياسية في معظم بياناته، ولذا لن تصلح «روح الشاعر» هنا ذريعة للنقد أو التبرير. لو افترضنا صحة عبارة أدونيس بأنّ الفنان «إما أن يكون حراً وإما أنه لا يكون فناناً»، فهذا يعني بالضرورة بأنّ أدونيس يرتد إلى أفكاره التنويرية القديمة، ويمكننا تبيّن هذا الأمر في مقالاته في السنتين الأخيرتين، لكنه هنا سيقع في الفخ ذاته الذي نصبه للآخرين، أي إنّه سينزع عن نفسه صفة الفنان. وهنا تكمن أحد أكثر مطبات أدونيس النظرية، أي، التعميم القاتل. رامبو، مثلاً، كان أحد أنبياء مجلة «شعر»، لكنّ تاريخه الأخلاقي والإنساني لا يؤهّله بحسب عبارة مريده الأكبر، لأن يكون فناناً. مع ذلك، يعمد أدونيس دوماً إلى رفع ورقة رامبو في وجه كل خصومه من «المتحجّرين» في الثقافة العربية طوال نصف قرن. كذلك، لا تستقيم ذريعة «روح الشاعر» في التمييز الضبابي الذي يكرسه أدونيس بين إسلامي وآخر، أو بين ثورة وأخرى.
لكن من جهة أخرى، لا يمكن للغارقين في وحول الطائفية والتابعين الجدد للظلاميين أن ينتقدوا أدونيس بسبب ما يظنونه موقفاً متذبذباً من العلمانية أو التحرر أو التنوير. توصيفه الدقيق للأكثرية الساحقة من المثقفين العرب بأنّهم «موظّفون بالمعنى الدقيق الخاص لهذه الكلمة» لا يزال صحيحاً حتى بعد نصف قرن. هؤلاء المثقفون أنفسهم هم اليوم، في زمن الثورة، الأكثر ارتداداً. وبعيداً عن السياق السياسي (لا يمكننا فعلياً فصله عن السياق النظري عند أدونيس)، يتابع «مهيار» تشريحه القاسي للمنظومة الفكرية العربية والإسلامية حين يؤكّد أنّ غربة الدين الكبرى «هي أن تصبح الكنيسة للكنيسة والجامع للجامع. هي أن يصبح الدين مؤسسة»، أو حين يشير إلى عجزنا عن تأسيس ثقافة عربية حقيقية إلا عبر لغتنا الأصلية. دون ذلك، ستبقى المعرفة «دخيلة، غريبة، وسيبقى العلم وسيلة للتعيّش»، لا وسيلة فعلية لأي نهضة أو ثورة. في الوقت ذاته، لا ينسى أدونيس أن يؤكد دوماً في بيانات الكتاب، بأنّ الفكر يجب أن يبقى ملازماً للسياسة، بل مرشداً لها، كيلا تصبح الثقافة «ثقافة استلاب لا ثقافة ثورة».
إذاً، نصف قرن من التشريح الأدونيسي العنيف للعقلية العربية والإسلامية لم يكن كافياً لبداية تحرر فعلي لهذه العقلية، ومن ثم للإنسان العربي، ولم تكن ـ في الوقت ذاته ـ أساساً قوياً لأدونيس ذاته كي يبقى على أفكاره التنويرية القديمة، لا أن يفرّغها من مضمونها السياسي ليبقيها تنظيرات في الفراغ. كانت غاية «فاتحة لنهايات القرن» التأسيس لثقافة نقدية عقلانية قد تمهّد لظهور الثورة؛ لكن النتيجة كانت هبّة ثوريّة غير مستندة إلى الوعي. وبدلاً من أن تكون الأجيال الجديدة عقلانية، بدت أكثر نكوصاً من الأجيال السابقة، وأكثر تكريساً للأصنام عوض تحطيمها. لا يمكن للشتائم أو التحجر أو الظلامية أن تبني نهضة؛ ولا يمكن للاستقطاب الحالي بين عقلية الشتّامين وعقلية المطبّلين أن تبني أرضية متينة للنقد العقلاني. هذه هي خلاصة «فاتحة لنهايات القرن» التي تؤكّد للجميع بمن فيهم مؤلّفه، بأنّ الضبابيّة في المواقف ستجعل أيّ طبعة جديدة للكتاب بعد نصف قرن آخر مناسبة جديدة للجدل ولإعادة تعريف البديهيات؛ وهذا الأمر بالذات هو نقيض أفكار التقدم والتنوير والثورة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى