أديب الشيشكلي بين «الحقيقة المغيّبة» والتاريخ المعروف
حيثما يطِل طيف العقيد السوري أديب الشيشكلي (1909-1964) الذي اغتيل في منفاه في البرازيل عام 1964، تتبادر معه صفات وأحداث تُلازم ذِكره؛ وإن كان بعضها خاطئاً أو منقوصاً. يسارع كثيرون ممّن تناولوا اسمه في أوراقهم إلى التطرق إلى أحداث السويداء التي كانت السبب في تنحّيه من منصبه، بوصفها أول حادثة عربية -في حينها- يُفتح فيها النار بوجه المدنيين وبأمرٍ مباشر من رئيس البلاد.
يقترن اسم العقيد بمقابلات تفاوض مع الكيان الصهيوني استعداداً منه للسلام مع «إسرائيل»، في الوقت الذي يعرف عنه أنّه شارك في جيش الإنقاذ العربي. ولا يغيب عن الدراسات التاريخية التركيز على سياسة أديب الشيشكلي الداخلية بوصفه ديكتاتوراً فرض حلّ جميع الأحزاب في سوريا منها «حزب الشعب» و«الحزب الوطني»، ثم أنشأ حزبه الذي عُرف باسم «حركة التحرر العربي».
إذاً هو شخصية إشكالية اشتهرت بلقب «رجل الانقلابات» لمشاركته في انقلابَين عسكريين قبل أن يقوم هو بتنفيذ انقلابه الأول عام 1949. لم يدوّن الشيشكلي سيرته الذاتية مثل معاصريه من رجال الدولة كأكرم الحوراني الذي كتب ما يقرب من 3600 صفحة على سبيل المثال. ولم يحفظها على شكل تسجيلات صوتية كما فعل حسني البرازي الذي حفظ مذكراته في سنوات منفاه لصالح مشروع التاريخ الشفهي في الجامعة الأميركية. من هنا جاء كتاب «أديب الشيشكلي- الحقيقة المغيّبة» (دار رياض الريس ـــ 2022) للمؤلفَين بسام برازي وسعد فنصة، ليلقي «المزيد من الضوء على هذه المرحلة، والتأريخ لهذه الشخصية التاريخية، بعقلٍ بارد، وموضوعية.. على ضوء الوثائق والشهادات والمراسلات التي أصبحت متاحة الآن بعد أن أفرجت عنها وزارات الخارجية في بعض الدول المعنية ورفعت عنها السرية» (ص10).
يمتد الكتاب على 575 صفحة (من القطع المتوسط) ويتألف من خمسة وعشرين فصلاً، بالإضافة إلى ملحق الصور والوثائق الذي يعرض في ثلاثين صفحة صوراً بالأبيض والأسود، مع شخصيات عربية وأجنبية منها: الرئيس اللبناني بشارة الخوري، رئيس الوزراء سامي الصلح، الرئيس كميل شمعون، الأمير سعود بن عبد العزيز في زيارته إلى سوريا، ووزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس في زيارته للقصر الرئاسي عام 1953. كما يضم هذا الجزء مذكرة محادثة بين الشيشكلي وفوستر (مستخرجة من وثائق الخارجية الأميركية)، ووثائق أخرى عن الخارجيتَين الفرنسية والبريطانية، وشهادات لشخصيات معروفة. بالطبع، هناك مجموعة من حوالى خمسين صورة موزعة بين الفصول، آخرها صورة عن رسالة الشيشكلي الأخيرة قبل خمسين يوماً من اغتياله وكان قد أرسلها إلى ابن شقيقته بسام برازي، أحد مؤلّفي هذا الكتاب. أما المؤلف الثاني الباحث السوري ــ الأميركي سعد فنصة، فهو ابن شقيق نذير فنصة (زوج شقيقة حسني الزعيم) الذي ساعده على الإطاحة بشكري القوتلي عام 1949؛ الانقلاب الأول في تاريخ سوريا الحديث. ينقسم الكتاب في مضمونه إلى أربعة أجزاء: الشيشكلي ودوره في حرب النكبة وما بعدها وموقفه من الكيان الصهيوني بعدما ترأس البلاد، الانقلابات العسكرية التي شارك فيها قبل أن ينفّذ انقلابه الأول، سياسات الشيشكلي الداخلية وإصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والصناعية، ثم أحداث جبل العرب وتداعياتها واغتياله في منفاه.
يلحظ من النص انحياز مؤلفيه لصالح الشيشكلي في الحديث عن شخصه وتقديم مواقف ملتبسة مدعّمة بأجزاء من شهادات عدة؛ وإن حاول برازي إيضاح الفرق بين انحيازه له بحكم قرابته منه، وبين الشهادات التي نقلها «بأمانة ودقة وموضوعية». وليست هناك مشكلة في القرابة بل إنّها في كثير من الأحيان تغني البحث برسائل وصور وأحداث خاصة وعائلية قد تسهم في نقل صورة أوضح عن شخصية الشيشكلي، لكن الفكرة تكمن في اختيار الشهادات وطرح المصادر؛ بالأخص في ما يرتبط بعلاقة الشيشكلي بالكيان الصهيوني. يفرد الكاتبان ثلاثة فصول للحديث عن نشأة الشيشكلي في بيئة وطنية، وتطوعه في ثورة الـ 36، ثم في جيش الإنقاذ العربي قائداً لفوج اليرموك الثاني الذي دخل إلى الجليل واشتبك مع قوات البالماخ في معركة المالكية.
يستشهد فنصة وبرازي بمقاطع من مذكرات أكرم الحوراني، ومدوّنات الطبيب والأديب عبد السلام العجيلي، لعرض معركة تحرير قلعة جدين الأثرية ولشرح كيف سقطت صفد بيد الصهاينة بعد أيام من صمودها وسيطرة العرب عليها. ثم يعود المؤلفان في الفصل السادس عشر لإيضاح علاقة الشيشكلي بـ«إسرائيل»، مستخدمين لقب «عدو إسرائيل رقم 1»، لتصدّيه لاختراقات الصهاينة ومضايقتهم عند الحدود السورية.
وبالفعل، حين أمر بن غوريون بإخلاء قريتَي «كراد البقارة» و«كراد الغنامة» العربيتين في سهل الحولة وتدميرهما بالكامل، ردّ الشيشكلي باستهداف دورية شرطة إسرائيلية تلتها مناوشات بالاتجاهين. لكن التاريخ لا ينسى أنّ الشيشكلي في مواقف عدة كان على استعدادٍ للسلام مع العدو الإسرائيلي؛ وهو أمر يذكره الكاتبان مع تبريرات من نوع «الشيشكلي شخصية واقعية وبراغماتية»، و«كان يعرف أن هزيمة إسرائيل بالسلاح مستحيلة»، و«كان يود هزيمة إسرائيل بالاقتصاد». يعلّق الباحث السوري سامي مبيّض في وثائقي «أديب الشيشكلي… رجل الظلال» (إنتاج «الجزيرة» ـــــ 2022)على حادثة مفاوضات الشيشكلي مع مردخاي ماكليف، نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بقوله: «كان لديه رغبة في توقيع سلام ينهي الحرب لكي تذهب ميزانية الدولة لصالح التعليم وليس لصالح المؤسسة العسكرية»، لكنه عاد إلى سياسة المواجهة وتهديد إسرائيل عند فشل هذا اللقاء.
تمتد الانقلابات العسكرية في الكتاب من الفصل الرابع إلى الثامن؛ وتبدأ مع الانقلاب الأول في سوريا الذي قاده حسني الزعيم في آذار (مارس) 1949 على الرئيس شكري القوتلي ورئيس الوزراء خالد العظم. ويعلّق الكاتبان على أن نتائج الانقلاب تشير إلى «فرضية وجود علاقة ما بالمخابرات الأميركية، فقد عقد هدنة مع إسرائيل، وقبل المساعدات الأميركية التي كان قد رفضها الرئيس السابق شكري القوتلي..». وهناك وثائق اتصالات سرية بين سوريا وإسرائيل تظهر أن السفير الفرنسي نقل إلى الزعيم «رسائل بن غوريون بضرورة عقد الهدنة التي وقعتها الدول العربية، ورفضت حكومة القوتلي توقيعها» (ص109).
وكانت علاقته سيئة ببشارة الخوري ورياض الصلح اللذين كانا على علاقة جيدة بالقوتلي. استغلّ الزعيم مشكلة مؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي» أنطون سعادة مع بشارة الخوري، وحاول دعمه متمنياً أن يقوم بانقلاب في لبنان. وحين صدر قرار الحكومة اللبنانية بإعدام سعادة، لجأ إلى الزعيم لكنّ الأخير نكث بوعوده وسلّمه إلى السلطات اللبنانية. سرّح حسني الزعيم أديب الشيشكلي من الجيش ووضعه تحت ما يشبه الإقامة الجبرية لأنه، حسب الكتاب، انتقد الزعيم على فعلته هذه. ومع أنّ الشيشكلي لم يقسم الولاء للحزب السوري القومي الاجتماعي (بخلاف أخيه صلاح الذي انضمّ للحزب في شبابه)، إلا أنّ مبيّض يروي قصة شائعة عن أنّ الشيشكلي ثأر لسعادة وعاد إلى جولييت المير (زوجة سعادة) حاملاً قميص حسني الزعيم الملطخ بالدماء. أدت هذه الأحداث إلى الانقلاب الثاني بقيادة سامي الحناوي الذي أعاد الشيشكلي إلى الجيش وعيّنه آمراً للواء الأول؛ وكان «هذا التعيين غلطة كبرى لقيادة الانقلاب الثاني الذي أطاح به الشيشكلي بعد أسابيع عدة» (ص119)، حسب مذكرات قائد الشرطة العسكرية محمد معروف.
حين تسلّم أديب الشيشكلي رئاسة البلاد، اهتمّ بتنمية اقتصاد سوريا، كما يظهر في فصول الكتاب الممتدة من التاسع إلى الثاني عشر، فقام بتجهيز الزراعة بالآلات الحديثة وتسيير قروض للفلاحين، واستصلاح أراضي الدولة المهملة وتنفيذ مشاريع ري واسعة. وأولى الصناعة اهتمامه، فأصدر إعفاءات ضريبية وجمركية لتشجيع المعامل الصناعية وحمى الإنتاج المحلي بتحديد نوع وكمية الاستيراد من الخارج. كما «عمد إلى تحرير السياسة النقدية من التبعية الفرنسية، وأسس في عهده مصرف سورية المركزي» (ص236). ولحماية الثقافة في سوريا، سعى لتطوير الإذاعة ومضاعفة نشاطها وإطلاق البث بأربع لغات. كما اهتم بالموسيقى والحفلات الرسمية وكان أول ظهور رسمي للمطربة فيروز في مناسبة عيد الجلاء عام 1952 غنّت بحضور الشيشكلي وفوزي سلو. وقامت في عهد الشيشكلي حملة للنهوض بالمتاحف و«إعادة ترميم الصروح الأثرية، منه مسرح تدمر الأثري، الذي ظل مختفياً تحت الرمال لمئات السنين» (ص269).
لكن حكم الشيشكلي لم يدم بسبب أحداث السويداء التي أسفرت عن انقلاب عسكري جديد في عام 1954 لكن هذه المرة على الشيشكلي من قِبل الضابط البعثي مصطفى حمدون. يوضح الكاتبان في الفصول الـ 18، 19، و20 أنّ لتلك الحادثة جذوراً نمت قبل حركة التمرد بسنوات حين قال القوتلي إنّ الدروز «أقلية خطيرة»، فغضب منه سلطان باشا الأطرش وقطع اتصالاته معه.
واعتبر الدروز «أن قوتهم وامتيازاتهم تقلّصت بشكلٍ مستمر على يد حكومة مركزية قومية تزداد قوة بشكل متزايد» (ص407)، وامتنعوا عن دعم الحكومة المركزية. وحين تجنّب الشيشكلي تسليم الدروز مناصب هامة في الدولة والجيش، حدث تمرّد في جبل العرب في الوقت الذي كان يتم فيه التخطيط لانقلاب على الرئيس. حاول الشيشكلي السيطرة عبر إرسال الجيش لإخماد التمرد، فحصل صِدام مع الأهالي أدى إلى سقوط قتلى من كلا الطرفين. على إثر تطور الأحداث، أعلن مصطفى حمدون التمرد وناشد الجيش عبر إذاعة حلب لدعم الانقلاب. ويعرض الفصلَان الأخيران من الكتاب كيفية تنحي الشيشكلي عن الحكم ونفيه خارج البلاد حتى استقرّ في البرازيل. وفي عام 1964، أطلق عليه نواف أبو غزالة الرصاص وفر هارباً إلى أن سلّم نفسه واعترف لاحقاً أنه فعل ذلك ثأراً لأحداث السويداء. تشير بعض الوثائق إلى أنّ التمرد والعصيان المسلح كان ممولاً من العراق (نوري السعيد)، كما يخلص برازي وفنصة (الذي يصرّح في مقابلة له على قناة «الحرة» بأنه يفخر بكونه مواطناً أميركياً!) إلى القول بأنّ حزب البعث هو الذي اغتاله.
في المحصّلة، يحمل الكتاب في طياته عدداً هاماً من الوثائق والمذكرات والصور التي تشكل مادة تاريخية دسمة لتدوين مراحل حياة أديب الشيشكلي. ولا شكّ في أنّ الشيشكلي شخصية كان لها في شبابها مواقف نضالية من بينها حادثة تهريب السجناء من مقاتلي ثورة رشيد عالي الكيلاني، نقلها المؤلفان عن نزار صائب: «الشيشكلي غامر خلال ثورة الكيلاني»، فحين جاءت أوامر عسكرية باعتقال وتسليم الشباب المنسحبين مع قوات المقاومة الشعبية إلى مدينة البوكمال، «أجبر سائقَي الباصين الوحيدين بين البوكمال ودير الزور على حمل الثوار الذين هم في عداد السجناء، وتهريبهم إلى مدنهم وقراهم» (ص36) وكان من بينهم أكرم الحوراني وجمال الأتاسي ونائب صيدا معروف سعد والشاعر سليمان العيسى. وانشقّ بعدها بسنوات عن «جيش الشرق» (Armée du Levant) خلال العدوان الفرنسي على مدينة دمشق. لكنّ وطنيته كانت تصبّ في مصلحة سوريا بمنأى عن القضية الفلسطينية؛ فكان مستعداً لعقد سلام مع الكيان الصهيوني مقابل أن يحصل على الدعم والفرصة لحكم سوريا كما أراد.