أردوغان: السلطان الحائر

لم يطبع أحد تاريخ الجمهورية التركية بطابعه مثلما فعل مصطفى كمال أتاتورك وبعده رجب طيب أردوغان. أسّس الأول الجمهورية التركية العام 1923 جامعاً شتات الأراضي الباقية من السلطنة العثمانية، وناظماً إياها في عقد جغرافي صورته الخريطة التركية الحالية. أما الثاني فقد بدّل مضمون «الجمهورية التركية» كما لم يفعل سياسي تركي من بعد المؤسس أتاتورك. وتكفي صورة تركيا الداخلية وتوازناتها لتبيان هذه الحقيقة. ترك أتاتورك إرثاً جغرافياً وسياسياً وثقافياً وحمولة أيديولوجية علمانية ما زالت بعض ملامحها شاخصة إلى اليوم، أما أردوغان فما زال يبدّل في هذا الإرث حتى كتابة هذه السطور، مُقَوْلِباً النظام السياسي التركي على قياسه وقيافته.

صعود عصامي لافت

ملأ أردوغان الدنيا وشغل الناس بتصريحاته المدوية ومعاركه الصاخبة داخل تركيا وخارجها. وإن كان التحدر العائلي من منطقة جغرافية بعينها يترك بصمته على سكانها، ربما يكفي أن تعرف «ريزه» باعتبارها مسقط رأس أردوغان. تقع محافظة ريزه في منطقة البحر الأسود بشمال تركيا، التي تتكون من جبال شاهقة وسهول خصبة ممتدة وشظف من العيش مقيم لغالبية سكانها العاملين في زراعة الشاي الأسود. يعتبر أتراك كثر أن من سمات سكان ريزه الميل إلى الشجار، وهو ما يمكن التثبت منه عند ملاحظة سلوك أردوغان. هاجر أبوه أحمد أردوغان من «ريزه» إلى اسطنبول ليعمل بحاراً، وولد رجب طيب أردوغان العام 1954 في حي قاسم باشا الشعبي في اسطنبول، الذي يتميز سكانه، بحسب ما يعتقد أهل اسطنبول، بالتمكن من تقاليد المشاجرة. دخل مدرسة الأئمة والخطباء الثانوية ذات الميل الديني، وأظهر صلابة في مواجهة حياته القاسية ليعيل نفسه. تجول أردوغان في شوارع اسطنبول ليبيع أقراص الكعك «السميط»، مكتسباً خبرات حياتية لا يمكن تعلمها في قاعات الدرس. وعلى عادة أبناء الأحياء الفقيرة، فقد برع أردوغان في لعب كرة القدم والمراوغة بها في فترات شبابه الأولى، حتى دخل كلية الاقتصاد والإدارة في مرمرة، ومنها إلى العمل الحزبي من أوسع أبوابه. طلّق أردوغان كرة القدم، وإن تركت فيه ملكة الإحساس برغبات الجمهور والبراعة في دغدغتها. راوغ أردوغان الخصوم بالكرة أمام الجمهور، وفي السياسة راوغ أردوغان خصومه بالكاميرات ووسائل الإعلام وفي ساحات القضاء وبالاقتصاد وبالتصريحات السياسية النارية. ذاب أردوغان في العمل الحزبي منذ شبابه الأول، وتعرّف على أمينة غولباران في أحد اجتماعات «حزب السلامة الوطني»، فتزوجا وأنجب منها أحمد براق ونجم الدين بلال وإسراء وسمية. في الثانية والعشرين من عمره تولى أردوغان الطموح زعامة جناح الشباب في «حزب الرفاه»، ومنها انتقل إلى رئاسة بلدية حي باي أوغلو في اسطنبول. سياسياً، نشأ أردوغان وتربى في كنف نجم الدين أربكان، فانضم، مشاركاً، إلى كل أحزابه المتتالية «النظام الوطني» و «السلامة الوطني» و «الرفاه» و «الفضيلة». شغل أردوغان منصب رئيس بلدية اسطنبول في الفترة بين عامي 1994 و1998، وبرع في مخاطبة سكانها عارفاً بمشاكلهم، فذلل الكثير من النواقص الخدماتية في المدينة التركية الكبرى.

أردوغان منشقاً

استهوته السياسة أكثر من كرة القدم، فالأولى تجعله متحكماً في المصائر، أما الثانية فتجعله محبوباً طيلة فترة المباراة فقط. ضاقت أحلامه السياسية بمنصب رئيس بلدية اسطنبول، لكن قامة أربكان القائد التاريخي للإسلام السياسي التركي وقفت عائقاً منيعاً أمامها. انشق أردوغان عن زعيمه ومعلمه أربكان العام 2001، وكوّن حزب «العدالة والتنمية» ومعه رهط من الشباب أمثال عبدالله غول وبولنت أرينتش، مُنهياً سيطرته على التيار الإسلامي التركي، الأمر الذي أبهج دوائر شتى داخل تركيا وخارجها. ودخل أردوغان في تطور دراماتيكي السجن لفترة شهور بسبب خطبة جماهيرية، قالت المحكمة إنها أهانت العلمانية وحضت على الكراهية. حينها خاض الحزب الجديد غمار الانتخابات العام 2002 ليفوز بها في مفاجأة من العيار الثقيل ويصبح عبد الله غول رئيساً للوزراء، بعدما تدخلت «يد القدر» لتخرج أردوغان من محبسه لتعدل القانون وتسمح له بالعمل السياسي مجدداً. ثم عادت «يد القدر» لتُعلن بطلان الانتخابات البرلمانية في مدينة سرت، ليتقدم أردوغان لها فائزاً، ويؤهله فوزه البرلماني لتولي رئاسة الوزراء، حيث يشترط القانون التركي أن يشغل المنصب نواب من البرلمان حصرياً. يفسح غول مكانه لرفيق دربه أردوغان، فيتولى الأخير رئاسة الوزراء من العام 2003 وحتى العام 2014 حين تولى موقع رئيس الجمهورية الذي يشغله من وقتها وحتى الآن. اكتسح «حزب العدالة والتنمية» كل أحزاب اليمين التركي خطوة بخطوة وانتخابات وراء انتخابات، فأصبحت أحزاب اليمين التركي ورموزها أثراً بعد عين. بعدها انتقل أردوغان إلى تصفية الحلفاء/الخصوم بداية من الداعية فتح الله غولين المقيم في بنسلفانيا الأميركية، مضيّقاً الخناق على أنصاره ووسائل إعلامه ومصالحه الاقتصادية. ولم يسلم التيار الليبرالي الذي ساند أردوغان في معاركه الأولى بمواجهة العسكر من الأذى، فأريقت على جوانب حديقة «جيزي بارك» الدماء، في مواجهة الشباب المحتج على خطط أردوغان الاجتماعية المنحازة للأغنياء. أما الأكراد الذين دعموه بقوّة في الانتخابات المتلاحقة وصولاً إلى رئاسة الجمهورية العام 2014، أملاً في موازنة المؤسسة العسكرية التركية واليمين القومي بشخصه، فقد اختبروا في العام 2015 بأس أردوغان وميله للعراك في الدَوْرتَين الانتخابيتَين للبرلمان اللتين عقدتا هذا العام في حزيران وتشرين الثاني. لم يبقَ أحد إلى جوار أردوغان في تركيا، فإما انفضوا من حوله على خلفية اختلاف السياسات، أو تمت إطاحتهم كونهم يمثلون خطراً محتملاً على «جمهورية أردوغان».

السلطان الحائر: مشهد افتراضي

رويداً رويداً، لم يعد لرفاق الدرب والمسيرة مكان، عبد الله غول المتنازل طوعاً عن القيادة لرفيقه أمسى خارج قصر الرئاسة ومقر الحزب. وبولنت أرينتش المؤتمن على البرلمان المسيطر عليه أردوغانياً طيلة سنوات، وشريك الانشقاق على أربكان والصعود السريع لأردوغان، فطواه النسيان. لم يبقَ من الرهط القديم أحد. رئاسة الوزراء وزعامة الحزب عقدها أردوغان بنفسه للمستشار أحمد داود أوغلو، القادم من خارج الحزب ومسيرة الانشقاق والصعود. كرّت السنوات وكبر الأولاد، حتى أن «الخصوم الملاعين» يتندرون بثروات أحمد وبلال التي تقارب المليارات ويقدمون إثباتات وتسجيلات صوتية عليها، ما يضطر السلطان إلى نفيها بنفسه. تغيرت الأدوار، فلم يعد أردوغان ذلك الشاب الطويل القادم من حي قاسم باشا، الذي يهز قلوب السامعين بمقولات الحق والنزاهة والشفافية في مواجهة أساطين الفساد. أصبحت عائلته هدفاً مفضلاً لأخصامه السياسيين بثرائها الفاحش وبتغلغلها في عوالم المال والأعمال. لم يعد أردوغان مهتماً بإخفاء كرهه للعلمانية وحرصه على تغليف مفرداته الدينية خشية السجن الذي تعرض له في السابق لشهور، فقد تبدلت التوازنات على مدار السنوات الماضية لمصلحته. لم يعد أردوغان مبالياً بالتقاط الصور مع عائلات اسطنبول الفقيرة التي يشاركها طعام الإفطار البسيط في شهر رمضان كما في السنوات الخالية، وإنما يولي عنايته بالقصر الرئاسي الجديد وقاعات استقباله الفارهة وكراسي الاستقبال المطلية بالذهب وقيافة الفرقة الموسيقية السلطانية، التي ترتدي أزياء الإنكشارية وأبهتهم. يحتار أردوغان في هؤلاء «الأتراك الجاحدين» لنجاحاته الاقتصادية ومعاركه المنتصرة في مواجهة تسلط العسكر على الدولة، وتهميشه لعائلات تركيا الثرية مثل كوش وصابانجي بتراثها العلماني وتعاليها الثقافي والطبقي على سكان الأناضول. يجتاح أردوغان الغضب من الأكراد الذين سمح لهم بتعلم لغتهم في بعض المدارس وحفنة من قنوات التلفزة بلغتهم الأم، فما بالهم يناصبونه العداء وينتخبون ذلك الشاب دميرطاش الطامح إلى حقوق مواطنية وثقافية أكثر! أخ لو عاد الزمان مرة أخرى، يقول أردوغان لنفسه وهو يطل من شرفة قصره المنيف في شنكايا قبيل الغروب، لأعدت الكرة مرات ومرات على هؤلاء الملاعين وجعلتهم يتجرعون كأس المرارة. سأجعل هؤلاء «الأراذل» كلهم يندمون: اليساريون والليبراليون والعلمانيون والأكراد والغولينيون ورفاق الدرب الذي كان. سأجلس تحت صورة أتاتورك في الاجتماعات الرسمية حتى أحكم قبضتي على الدولة، وعندها أطيح الصورة اللجوجة من الحوائط والقلوب. يجتاحه الاشتياق إلى حي قاسم باشا وتناول أكلة الكوارع التي يحبها في مطاعمه الشعبية ويســـتذكر بحنين بالغ الجـــماهير العفوية المنتظرة كلمات «الشاب النظيف خصم الفساد». لكن ضرورات الأبهة والسجادة الحمراء والملابـــس الأنيقة تشده بوجاهتها المحببة لديه أكثر. يتوقف أردوغان لبرهة عن خواطره وهو يتابع قرص الشمس المقارب على الاختفاء بعينين مرهقتين، مستذكراً أن قصر شنكايا عاد بالأساس إلى عائلة أوهانس قصابيان الأرمنية، قبل أن تصادره السلطات بعد مذبحة الأرمن العام 1915 وتعطيه لعــائلة تركية هي بولغورلو زاده، الــتي باعت القـــصر لاحقاً إلى الغازي مصـــطفى كمال أتاتورك في العام 1921. تتوارى الشمس خلف الشــرفة ويحل الظلام. «التاريخ اللعين» لا يذهب، والرفاق قد انفضوا، فأين المفر؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى