أردوغان يبدد الفرصة الأخيرة لتحقيق السلام مع الأكراد

تطلعت تركيا منذ فترة طويلة من خلال كل الفوضى التي تعم الشرق الأوسط، لأن تكون مرسى النجاة للاستقرار في المنطقة، ومثالاً للاعتدال وتحديث الإسلام بالنسبة لعالم عربي يعج بالفوضى والغليان.
على أن الأمر لم يعد كذلك الآن. رجب طيب أردوغان، الذي سيطر على تركيا كرئيس للوزراء لعقد من الزمن، قبل أن يصعد هذا الصيف إلى سدة الرئاسة، يخاطر اليوم بإغراق بلاده في أزمة، ودفن مبادرته للسلام مع الأقلية الكردية التركية العنيدة، تلك المبادرة التي بدت يوما ما واعدة ومليئة بالآمال. السبب المباشر في ذلك هو حصار كوباني، البلدة السورية الكردية القريبة جداً من الحدود التركية الجنوبية مع سورية، الواقعة تحت “داعش”.
الأكراد غاضبون وهم يرون الدبابات التركية وهي تراقب الوضع دون أن تتحرك، في وقت يندفع فيه هؤلاء المتطرفون بقوة إلى ذبح أقاربهم السوريين المسلحين تسليحاً ضعيفاً.
قتل العشرات في مظاهرات جرت في جنوب شرق تركيا، حيث تضع تركيا دباباتها على الشوارع الكردية. أما وقف إطلاق النار الذي أعلنه قبل 18 شهرا حزب العمال الكردستاني مع الحكومة الكردية، كجزء من المفاوضات لإنهاء حربهم التي استمرت 30 عاماً مع الدولة التركية، فقد أصبح يعتريه الضعف الآن، وبدا أكثر من أي يوم مضى معرضاً للانهيار. لقد ضربت القوات الجوية التركية في هذا الأسبوع أهدافاً تابعة لحزب العمال الكردستاني واقعة على الحدود العراقية. فكرة أردوغان الأصلية هي إعطاء الأكراد في جنوب شرق تركيا قدراً من الحكم الذاتي، وفي نفس الوقت جذب حكومة إقليم كردستان شبه المستقلة في شمال العراق والمعاقل الكردية المحررة في شمال سورية إلى مجال النفوذ التركي.
وفي العام الماضي عبّر حلفاء تركيا في “النيتو” عن خشيتهم من أن هذا ربما يعرّض للخطر وحدة أراضي كل من سورية والعراق باعتبارها من الدول المستقلة. أما في هذه السنة، وبعد التقطيع الذي حدث في الدولتين واندفاع “داعش” عبر الحدود لملء الفراغ الناتج عن ذلك، فقد أصبح هؤلاء الحلفاء يحثون تركيا على مساعدة الأكراد وتحقيق الاستقرار في المنطقة.
يمكن فهم تردد تركيا في إرسال جنود إلى منطقة يرفض الحلفاء تزويدها بها، فأردوغان ليس مخطئاً أيضاً عندما يركز في أقواله على عدم تماسك وتناغم استراتيجية التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد “داعش”، ولكنه قال أكثر من ذلك، وكثير مما قاله مليء بعبارات نارية، وهو أيضاً يمنع الآخرين من إرسال السلاح إلى داخل بلدة كوباني.
تحدى أردوغان مبدأ القومية التركية حين تجرأ على فتح حوار مع عبد الله أوجلان قائد حزب العمل الكردستاني المسجون، لإنهاء عقود من العداوة والقتل بين الإخوة الأتراك والأكراد.
ومع ذلك فقد ساوى أردوغان الحزب الكردي بـ “داعش” (من حيث الإرهاب)، الأمر الذي أقنع كثيراً من الأكراد بحقيقة أمرين، هما: أولاً، هو أنه سعيد بترك كوباني تسقط، لأن أغلب المدافعين عنها من حزب الوحدة الديموقراطي الكردي، وهم أساساً من الفرع الكردي السوري التابع لحزب العمال الكردستاني، وثانياً هو يفضل توسيع أراضي “داعش” لتشمل كياناً كردياً آخر على الحدود التركية.
تشبيه حزب العمال الكردستاني بـ “داعش” أمر عجيب وغريب. وعلى الرغم من القسوة التي اتسم بها حزب العمال الكردستاني، إلا أن شعبيته تعود بشكل رئيسي إلى نكران الدولة التركية للحقوق الأساسية للأكراد. كما أنه لا يرتكب أفعالاً مثل قطع الرؤوس والذبح والصلب والاستعباد أو السعي إلى القضاء على ما يسميهم بـ “الكفار” مثل الشيعة والمسيحيين.
يقول الأتراك الذين راقبوا بعناية المسألة الكردية – وحتى قبل فترة طويلة من اعتراف أردوغان الشجاع بأن لدى تركيا مشكلة كردية – “إن هذا هو آخر جيل من قادة أكراد تركيا الذين يمكن أن تعقد أنقرة معهم اتفاقا”.
فضلاً عن ذلك، عمل قادة الأتراك العراقيين على احتضان فكرة السلام التركية اعتقاداً منهم أنها ستكون نقطة تحول مهمة لكل الأتراك. والبديل لذلك هو وجود قدر مليء باليأس المتطرف وهو في حالة غليان.
أردوغان يداعب مخاطر هائلة. وربما أصبح خائفاً من أن تصبح مبادرته للسلام نقطة انطلاق لدولة تشمل كل الأكراد، ولكن مهما كانت دوافعه، فهو يعمل بذلك على إحداث انقسام في تركيا.
نحو خُمس سكان تركيا من الإثنية الكردية، ونحو الخُمس من الشيعة العلويين الذين تم تهميشهم نتيجة للهجة الفوقية لأردوغان، والحزب الإسلامي الحديث الحاكم الذي يرأسه، هذا إضافة إلى سلوكه التسلطي في البلاد.
ما لم يصبح أردوغان حريصاً جداً، فقد تفتح الثقة الفائقة لهذا القائد الأبواب لإدخال تركيا في دوامة الطائفية، التي تزمجر وهي تجتاح بلاد الشام في هذه الأيام.
فاينانشل تايمز