أردوغان يُدخل تركيا في أزمة ممتدة

تقف تركيا على أعتاب مرحلة جديدة من استقطابها السياسي، بعد انتخاب رجب طيب أردوغان رئيساً للجمهورية بغالبية أقل من 52 في المئة بقلـيل، وتعيينه وزير الخارجية أحمد داود أوغلو خلفاً له في رئاسة «حزب العدالة والتنمية» الحاكم وفي رئاسة الوزراء التركية. وإذ تشهد الحياة السياسية التركية منذ عشر سنوات استقطاباً حاداً بين «حزب العدالة والتنمية» ذي الجذور الإسلامية من جهة، وباقي التيارات السياسية التركية من جهة أخرى، فإن طموحات أردوغان العارمة بتغيير النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي ستطيل من عمر الأزمة التركية. ويزيد من صدقية هذه الفرضية أن نتيجة انتخاب أردوغان رئيساً (51,8 بالمئة) هي الأفضل التي حققها «حزب العدالة والتنمية» في تاريخه، ما يعني أن نصف المجتمع التركي يتواجه مع النصف الأخر في مواجهة لن تنتهي سريعاً أو حتى تحسم خلال السنة الواقعة ما بين انتخاب أردوغان أب 2014 وحتى موعد الانتخابات البرلمانية القادمة حزيران 2015.

صلاحيات رئيس الجمهورية التركية

تحدد المادة 104 من الدستور التركي صلاحيات رئيس الجمهورية، التي تقل بوضوح عن صلاحيات رئيس الوزراء. وبالرغم من أن آخر رئيس للجمهورية من خارج «حزب العدالة والتنمية» كان أحمد نجدت سيزر، الذي خلفه عبد الله غول العام 2007، فإن سيزر ومن بعده غول اكتفيا بالطابع البروتوكولي للمنصب، في وجود أردوغان كرئيس للوزراء. طبقاً للدستور التركي «يعد رئيس الجمهورية رأس الدولة، وبهذه الصفة فهو يمثل الجمهورية التركية ووحدة الأمة التركية، وتناط به مهمة ضمان تطبيق الدستور وكذلك ضمان أن تعمل أجهزة الدولة في شكل منتظم وفي انسجام وتكامل». وبعد هذا التعريف المطاط نسبياً تحدد المادة واجبات وصلاحيات الرئيس ذات العلاقة بالتشريع، بأنها تتضمن «أن يلقي الكلمة الافتتاحية أمام البرلمان التركي في السنة التشريعية الأولى. وأن يدعو البرلمان للانعقاد عند الضرورة من أجل إعلان القوانين أو إرجاعها له لإعادة النظر فيها. كما يحق له «الاستئناف أمام المحكمة الدستورية العليا لألغاء قوانين بعينها للنظر في دستوريتها واتخاذ القرار بتجديد انتخابات البرلمان التركي». أما واجبات وصلاحيات الرئيس ذات العلاقة بالسلطة التنفيذية فتأتي كما يلي: «تعيين رئيس الوزراء وقبول استقالته، الموافقة على مقترحات رئيس الوزراء بتعيين الوزراء وفصلهم، وترؤس مجلس الوزراء حينما يجد ذلك ضرورياً. فضلاً عن اعتماد السفراء الأتراك بالخارج واستقبال السفراء الأجانب المعتمدين في تركيا، وكذلك التصديق على المعاهدات وتعميمها، ودعوة مجلس الأمن القومي للانعقاد. وتعيين رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، واتخاذ قرار بشأن استخدام القوات المسلحة التركية وإعلان حالة الطوارئ في حال الضرورة. وأيضاً تعيين أعضاء المحكمة الدستورية وربع أعضاء مجلس الدولة والمدعي العام لمحكمة الاستئناف العليا».
لا يخفى هنا أن تعيين رئيس الوزراء يتم بتكليف مرشح الحزب ذي الكتلة الأكبر في البرلمان والحائز على تحالف يملك الغالبية البرلمانية بالفعل، وبالتالي فموضوع التعيين وقبول الاستقالة هي موضوع شكلي محض لا صلاحيات فعلية له. ذات الشيء ينطبق على الموافقة على مقترحات رئيس الوزراء أو اعتماد السفراء بالخارج، أما دعوة مجلس الأمن القومي للانعقاد فلا تعني سوى إجراء شكلي، خصوصاً أن الرئيس لا يملك حيثية مخصوصة عند التصويت واتخاذ القرارات في هذا المجلس. هنا تصطدم طموحات أردوغان بوضوح مع نصوص الدستور، التي تفسح صلاحيات أوسع لرئيس الوزراء. ولحل هذه المعضلة يعتمد أردوغان على ركيزتين: الأولى استنطاق صلاحيات أوسع لرئاسة الجمهورية من نصوص الدستور، والثانية تعيين موال له في منصب رئاسة الوزراء للسير في طموحاته بتحويل تركيا إلى نظام رئاسي، حتى مع الافتقار إلى غالبية الثلثين في البرلمان.

داود أوغلو رئيساً للوزراء

لم ينتظر أردوغان كثيراً بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، حيث أعلن عن موعد الانتخابات الداخلية لحزب العدالة والتنمية الذي ترأسه، كون المادة 101 من الدستور التركي تمنع الرئيس من عضوية الأحزاب السياسية. إلى هنا الأمر اعتيادي، ولكن الإسراع بعقد هذه الانتخابات قبل أيام من انتهاء الفترة الرئاسية لعبد الله غول، يعتبر إقصاءً واضحاً للأخير على الرغم من إعلانه رغبته العودة إلى الحزب. وإذ تداولت دوائر في «الحزب» وقتها أن محمد علي شاهين هو مرشح الحزب لرئاسة الوزراء حتى موعد الانتخابات البرلمانية القادمة، إلا أن تعيين داود أوغلو في منصب رئيس الحزب ورئيس الوزراء نقل الأزمة إلى مستوى أخر.
كان دافع أردوغان في تعيين داود أوغلو أن يتحكم أردوغان في صلاحيات رئاسة الوزراء عن طريق تسمية شخصية لا تعارضه وتدين له بالولاء، وترضى بدور الرجل الثاني في تراتبية السلطة الجديدة التي يهندسها أردوغان. وداود أوغلو عمل مستشاراً للشؤون الخارجية في مكتب رئيس الوزراء عبد الله غول، ثم رجب طيب أردوغان، ابتداء من العام 2003 برتبة سفير، قبل أن يعين العام 2009 في منصب وزير الخارجية، الذي استمر فيه حتى تعيينه مؤخراً رئيساً للوزراء. انضم داود أوغلو إلى «حزب العدالة والتنمية» بعد أن أصبح وزيراً للخارجية، وانتخب عضواً في البرلمان عن محافظة قونية التي ينتمي إليها، بما يعني أن خبرات داود أوغلو الأكاديمية وفي السياسة الخارجية، لا تجعله مؤهلاً بالضرورة أو بارعاً في العمل والتنظيم الحزبيين. ويصطدم تعيين داود أوغلو رئيساً لـ«حزب العدالة والتنمية» بتيار لا يستهان به داخل الحزب، يتزعمه بولنت أرينتش الصقر المخضرم. يتجسد القوام الأساسي لهذا التيار في كتلة يبلغ عددها من خمسين إلى ستين نائباً برلمانياً بصدد إتمام دورتهم البرلمانية الثانية العام القادم، ولا يحق لهم الترشح لمرة ثالثة حسب اللائحة الداخلية لـ«حزب العدالة والتنمية»، ما ينهي عملياً حياتهم السياسية. كما أن هناك تياراً لا يستهان به داخل الحزب، يعتقد بنزاهة وكفاءة الرئيس السابق عبد الله غول، لموازنة أردوغان والسير بالحزب نحو المرحلة الجديدة، ويعتبر أن تعيين داود أوغلو في هذا المنصب الحساس ما هو إلا انعكاس لرغبة أردوغان في أن يطبع الحياة السياسية التركية بطابعه الخاص.

التوقعات

في ضوء التوازن داخل البرلمان التركي، والذي لا يسمح لأردوغان بتغيير الدستور من دون موافقة المعارضة لتحويل تركيا إلى جمهورية رئاسية، سيعمد أردوغان ومحازبوه على اعتماد تفسيرات تناسبهم لصلاحيات الرئيس المنصوص عليها في الدستور التركي، بغرض توسيعها لتصبح على قياس وقيافة الطَموح أردوغان. وبدوره سيؤدي ذلك إلى اعتماد المعارضة على عرض القضايا الخلافية أمام المحكمة الدستورية للفصل في الخلاف مع الرئيس أردوغان، والمتوقع أن تزداد وتيرتها بشكل ملحوظ خلال الأشهر القادمة. تضيق الخيارات على أردوغان على الرغم من انتصاره الانتخابي، إذ لم يجد في النهاية سوى داود أوغلو وزير الخارجية السابق ليجلسه على مقعد رئيس الحزب والوزراء، وخاقان فيدال رئيس الاستخبارات التركية ليفسح له منصب داود أوغلو في الحكومة الجديدة، أي وزارة الخارجية. كلا الرجلان لا تاريخ سياسياً حزبياً له، وكلاهما أصبح في بؤرة اتهامات ـ محقة أو مغرضة – بتهديد مكانة تركيا في المنطقة بسبب أدوارهما في السنوات الثلاث الماضية على رأس وزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات التركي. خسر أردوغان عبد الله غول على الأغلب ومعه بولنت أرينتش، ومن المحتمل أن يبرم الرجلان تحالفاً يضمهما مع كتلة أعضاء البرلمان (من خمسين إلى ستين نائباً) الممنوعين من الترشح في الانتخابات البرلمانية القادمة بسبب لوائح الحزب الداخلية، لتكوين حزب سياسي جديد يخوض الانتخابات البرلمانية القادمة، وهو ما من شأنه شق «حزب العدالة والتنمية» والضغط على أرودغان من حيث لم يحتسب.
تبدو أزمة النظام السياسي التركي ممتدة، بحيث ستجرجر نفسها من دون حل لفترات زمنية طويلة نسبياً. ومع ترفيع داود أوغلو وخاقان فيدال كرئيس للوزراء ووزير للخارجية على التوالي، فمن الواضح جداً أن السياسة الإقليمية التركية ستسير في المرحلة القادمة على ذات الأسس التي انتهجتها في السنوات الثلاث الماضية. وهي الأسس التي حولت تركيا من لاعب يحظى باحترام جميع الأطراف قبل «الربيع العربي»، إلى طرف خاسر في صراع إقليمي هشّم صورته وبعثر نفوذه وبدّد مصداقيته.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى