كتب

أزهر جرجس: ديستوبيا العراق

فاطما خضر

ليست الأحداث العظيمة ما تمنح الرواية أهميّتها، بل الأحداث الصغيرة الولّادة، التي تترك أثر الفراشة، مخلّفة على امتداد صفحاتها اضطراباً يُثير وجدان القارئ كلّما اقترب من نهايتها.

 

وهذا بالضبط ما ينطبق على رواية «وادي الفراشات»، للروائي العراقي أزهر جرجس، الصادرة بأربع طبعات في عام واحد (2024)، بالتعاون ما بين داري «الرافدين» (بغداد) و«مسكيلياني» (تونس).

روايةٌ تسرد أحداثاً يوميّةً، حافلةً بالخيبات، لبطل ليس خارقاً وإنّما مُهمّشٌ، ومسحوقٌ، وسيّئ الحظ. تبدأ بحوار ساخر، بين هذا البطل السجين «عزيز جواد»، وخاله الكهل «جبران»، عند زيارة الثاني للأوّل وقد هدّه المرض: «خذ، هذه آخر زيارة» قال وهو يُنزل الأغراض.

– «إذا خرجتَ من السجن، فلا تنس أن تضع الورد على قبري يا نذل. لقد بدا لي ناعياً نفسه، فقلت في محاولة للتخفيف:

يومي قبل يومك يا خال. فردّ مازحاً: إن شاء الله، ومن يكره! ثم ودّع ورحل: اعتنِ بنفسك… إلى اللقاء في جهنم…».

من بين هذه الأغراض التي حملها الخال «دفتر الأرواح»، الذي سيُمسك القارئ عبره بأوّل خيط للمضي في القراءة بحثاً عن سرّه، وعن لغز أسماء الأطفال التي دُوّنت على صفحاته.

مستخدماً تقنية الفلاش- باك، يعود جرجس بعد هذا الحوار، لسرد سيرة حياة عزيز جواد، بلغة مباشرة، ذات طابع تقريري، تستمدُّ مفرداتها من الحياة اليوميّة، وتزخر بالسخرية والتهكّم. يُضمّن جرجس هذه السيرة مجموعة شخصيّات، ينتقي صفاتها وسلوكياتها بعناية، ليُحمّلها بذلك رمزيةً لسمات عامة سادت المجتمع العراقي، في حقبة امتدّت منذ فترة السبعينيات، وستُشكّل فترة التسعينيات والحصار الذي عاشه العراق إثر حربه على الكويت، الفترة الأبرز في رسم أحداث قاسية، تقودنا إلى وادي الفراشات، الذي شكّلت حكايته جوهر الرواية.

يضرب جناح الفراشة أثره على حياة عزيز منذ موت والده الأبكم، الذي هُشّم رأسه إثر سقوطه على خطوط السكة الحديد أثناء نوبة عمله، فعاش بقية حياته على الفراش، فاقداً لكلّ من الذاكرة والتأثير في حياة أبنائه.

وكأنّ شخصيته كناية عن شعب أبكم، عاجز عن المطالبة بحقوقه من سلطة استبداديّة، قادت بلداً بأكمله إلى هاوية الفقر، وخلقت طبقيّةً مُفرطةً بين شرائحه.

وبموت والده هذا، يُظهر جرجس سلطة الأخ الأكبر، ليرمز عبرها إلى حُكم القوي على الضعيف، حيث هَجّر أخاه من غرفة تشاركانها ليتزوّج زواجه الأوّل، وفي وقت لاحق من الرواية، حرمه من نصيبه في الميراث الشرعي، ليتزوّج زواجه الثاني. وهكذا، انتقل عزيز إلى النوم في غرفة أخواته الأربع، وسرعان ما غادرها إلى غرفة الضيوف، لتتحوّل الأريكة إلى سرير، وطاولة دراسة، وطاولة طعام إن لزم الأمر.

ثمّ يقع شجار عنيف بين أختين من أخواته، يُغيّر مصيره، إذ طلبت منه والدته الذهاب إلى بيت خاله جبران، ليُتابع دراسته استعداداً لامتحانات البكالوريا المصيريّة، وهي من علّقت حلمها عليه بأن يُصبح طبيباً.

وهُناك وقع في غرام المطالعة والكتب، فاستبدلها بالدراسة، ما قاده إلى الفشل في تحقيق حلم والدته. لكنّه كسب صداقة خاله جبران، الذي رافقه طوال أحداث الرواية، وغدا ملجأً لأسراره، ويداً انتشلته من ورطة تلوَ الأخرى. وجبران رجل أعذب، يمتلك مكتبة، كَتبَ على واجهتها: «الجنة مفتوحة لمن يقرأ»، فهو يؤمن أنّ الحياة عبارة عن كتب وحفنة أصدقاء، وأنّ المال وسيلة. لتُشير شخصيته بذلك إلى المثقف التقليدي لجيل الستينيات، الذي آمن بالقيم الرفيعة والمبادئ الأصيلة.

بعد مشاورة خاله، تقدّم عزيز برفقة صديقه مهند لدراسة المسرح في كليّة الفنون، حيث التقى حُبّ حياته «تمارا»، الصبيّة المنحدرة من عائلة غنيّة. بدأت بينهما قصّة حُبّ رومانسيّة، جُوبهَت بالرفض من قبل أهلها، بسبب الفارق الطبقيّ، ومرَّت بكثير من المعاكسات قبل أن تُكلّل بالزواج، بعد مساعدة من الخال بإيجاد وظيفة لعزيز، لا علاقة لها بالفن والمسرح والكتب: «موظّف أرشيف»، وفي ذلك رمز لضياع مستقبل جيل بأكمله، استحقّ لقب «جيل الخيبة»، في بلد احترف ليس فقط القتل المعنوي لشبابه، بل لأطفاله، نتيجة ظروف غير إنسانية غلّفته، إثر حصار استمرّ لسنوات، عقب حروب متتالية، ما جعل من فكرة الزواج وبناء أُسرة جريمة بحق الأبناء.

كيف لزوجَين أن يُنجبا طفلاً، حتّى وإن كان ذلك ثمرة حُبّ عاصف، في بلد يُعاني نقص الطعام والأدوية، وفقر المشافي والأسواق؟ يطرح جرجس هذه الفكرة برمزيّة عالية، عبر إجهاض تمارا مرتين متتاليتين نتيجة ظروف المعيشة السيئة. وهذا بحدّ ذاته رمزيّة لوأد الحب تحت وطأة العوز والفاقة، الفكرة التي تجسّدت في فراق الزوجين، بعدما نجح الحمل والإنجاب، لكن خُطِف الطفل، وفقاً لحبكة اختارها جرجس، ليكون الهدف تسليط الضوء على ظاهرة خطف الأطفال، وتجارة الأعضاء الرائجة حينها.

وبتشبيه ذكي، يختار جرجس أن يُكنّي هؤلاء الأطفال بالفراشات، فالطفل الذي يُولد، ويمضي صوب نور الحياة بخفّة فراشة، يحترق حتّى لو نجا من الموت الحرفيّ، ليكون نصيبه الموت المجازي في بلد يدفن مستقبله وأطفاله في وادي الفراشات، قبل أن تكتمل أحلامهم، أو قبل أن يُدركوا حتّى أنّه ثمّة أحلام.

وادٍ قادت المصادفة عزيزاً إليه، حين أصبح سائق تاكسي، بعد خسارته عمله كموظف أرشيف بسبب ادّعاء عشيقة المدير، أنّه أساء الأدب معها، ليُشير جرجس بذلك إلى الفساد الذي ضرب مفاصل المؤسسات… ثُمّ خسارته لعمله في مكتبة خاله، ودخوله السجن، بعدما طالته حملة أمنيّة، ووجدت لديه كتاباً محظوراً بعنوان «جمهورية الخوف»، شجعه على طباعته صديقه مهند، مؤكداً أنّ ذلك سيُضيف الكثير إلى ميزان حسناته. ويمثّل مهند الشخصية البراغماتية، المؤمنة بمبدأ «الغاية تُبرّر الوسيلة».

لذلك لا ضير في أن يشجع عزيز أيّام الدراسة على العمل في بيع أشرطة الأفلام الإباحيّة، ثُمّ أن يتحوّل إلى داعية دينية، ليُشير بذلك جرجس إلى مدة صعود المد الديني، وتوغله في المجتمع العراقي. تتحوّل هذه المصادفة إلى نقمة، حين يُتّهم زوراً بتجارة الأعضاء، ليعود إلى السجن مجدّداً، وقد خسر كلّ شيء، باستثناء خاله جبران: نصيبه في الميراث، والدته التي توفّت، طفله سامر، زوجته، عمله، صديقه مهند، إيمانه بالعراق، وحياته.

«وادي الفراشات» رواية عن ديستوبيا العراق، نستعيد عبرها صرخة فيروز عندما غنّت في نهاية مسرحية «بترا» للأخوين رحباني: «بحرب الكبار شو ذنب الطفولة؟ بحرب الكبار شو ذنب الضحكات الخجولة؟ قولِيلي… يا زْغَيَّرَة وين رحْتِ… يا لفتة نَحيلة… يا دمعة بخيلة… قُوليلي». وكأنّ جرجس يُجيب الأيقونة فيروز: إلى وادي الفراشات!

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى