أزهر جرجيس يروي أحوال العراق
في سؤاله عن الفنّ وحضوره في روايته «حجر السعادة» (دار الرافدين)، يستعين الروائي العراقي أزهر جرجيس بمقولة ألبير كامو «طريق السعادة وعرٌ ما لم يساعدنا الفنّ على اجتيازه»، ثم يضيف إنّ الفنّ «ترياق جيّد لترميم النفس البشرية حين يطالها الخراب». وليس ثمّة خراب يطال النفس كذاك الذي يطال بلاداً تعاني أزمات متلاحقة، فيأتي دور الفنان/ الأديب ليصنع لنا هذا الترياق، ليكون معيناً لنا، وله على حدّ سواء، لتستطع الأنفس في بلادنا التقاط الأنفاس والاستمرار.
«حجر السعادة» هو عنوان رواية الكاتب التي تبدأ في الموصل وتنتهي في بغداد. في الموصل حيث الأب المهمل السكّير الذي يتزوّج بعد وفاة زوجته الأولى، فتكون حال الأطفال مع زوجة الأب التي تُنجب أيضاً، هي الحال التي نعرفها وتداولتها الكثير من القصص والأعمال الفنية والدرامية. إلا أنّها تغدو مقدّمة فقط لما ستؤول إليه حال كمال، الذي يكون مسؤولاً ــ عن غير قصد، بسبب عناده ورفضه للتنمّر والخضوع ـــ عن وفاة الأخ الأصغر، من الزوجة الثانية. وهنا تبدأ الحكاية، وتبدأ رحلة كيمو/ كمال المصوّر. حضور الأخت التي تركها تصارع حياة البؤس مع والدها، ومن ثمّ مع الزوج المتخلّف، لم يكن قويّاً، وهذا مقصود من الكاتب، الذي أراد لكمال أن يشقّ طريقه نحو العذابات بمعزل عن العائلة وهمومها، فيكون التركيز على الهمّ الشخصيّ، الممثّل لأبناء جيل بأسره، هو المتحكّم بسير أحداث الرواية وشخوصها، إلى أن تظهر الأخت فتعيد الحنين والذكريات، كله في سبيل التركيز على هموم الشخصية المنفردة بالأحداث، التي تتشكّل المتغيّرات من حولها بسبب حركتها هي فقط. حتى مع وفاة الأخت، فهي لا تؤدّي سوى الدور المتمثّل باستعادة الماضي الممزوج بالأسى على وفاة الأخ الأصغر ريمون.
كمال المصوّر، يجد حجر السعادة في الموصل، حيث بستان الجنّ المزعوم. يرافقه هذا الحجر في جميع أسفاره، النفسية والمكانية، ضمن الأطر الزمنية المختلفة. سعى الكاتب بشكل مُحكَم ومدروس، إلى جعل كمال المحبّ للتصوير منذ طفولته، الذي صنع كاميرته الكرتونية بنفسه، يلتقي بالمصوّر خليل الذي أحبّ زوجته ولم ينجبا، فيحتضن كمال الفتى العنيد، الذي شاءت ظروفه أن يسرق ويحرق ويتعرض للطعن ويفقد كليةً، من دون الخَوض في الرومانسية المرافقة لمثل هذا الاحتضان. فقد ظلّ كمال المراهق على عناده، وظلّ العمّ خليل، يعامله بطريقة لم تتعدّ اللطف والاحتضان، فأصبح عاملاً ومن ثمّ مصوّراً، فأخذتنا الرواية من تنبُّؤ إلى فعل رومانسيّ قد يحصل، إلى فعل واقعي يدعم مسيرة كمال التي كانت همّ الرواية الأول، فيغدو الموظّف والعامل ويد معلّمه اليمنى.
قصّة حبّ كمال، التي تحميه في نهاية الرواية من أن يقوم بفعل القتل، فينتصر الحبّ على الانتقام، قابلتها قصة حبّ خليل لزوجته التي بوفاتها تحوَّلَ إلى كائن كئيب، فيما تقف شخصية خليل في مواجهة صورة الأب التي صوّرتها الرواية، والد كمال، لتجعل المتلقي يقف أمام حالات مختلفة من حالات الحب والبغض، ولا يوجّهنا نحو تبنّي وجهة نظره حول إحداها، بل يترك للأحداث أن تقوم بالأمر.
هي واحدة من الروايات التي تجعلك تتمهّل في قراءتها كي لا تنتهي، ولا تشدّك نحو نهاية فيها تشويق حول لغزٍ ما، فتظلّ في حال توتّر لترى ماذا سيحصل. فقط خلال الفصلين الأخيرين، يحدث الأمر، فتكون جاهزاً لتُنهي الرواية وتنهي معك تساؤلك الذي لا تلبث الرواية أن تجيب عنه. تأتي سلاسة الأسلوب، واللغة المتينة التي يشوبها المجاز برشاقة، لتشكّل مع فكرة النصّ والهموم التي حملها، وطريقة معالجتها البعيدة عن التكلّف، لتجعل الرواية عملاً كاملاً، ضمن قالب سردي جاذب ومثير.
طرحت الرواية قضايا متنوّعة، حول العراق وما أصابه، فالزمن في الرواية أساسيّ، ليس أثناء الخوض في تجارب الشخصيات الفردية، على الرغم من تأثير الزمن فيها إلى حدّ ما، بل أثناء الحديث السريع وغير المؤثّر على حرفيّة كاتب السردية، في أمور الوطن والسياسة، فلا تسلم مرحلة سياسية من النقد، منذ صدّام وحروبه العبثية التي مات بسببها الناس جوعاً وقبل الجوع بالرصاص والصواريخ، إلى ما بعد الاحتلال، وتحديداً قُبيل الثورة الأخيرة، التي تنبّأت الرواية بأنها ستهدأ، إن لم نقل ستفشل، وبأنّ الثعابين أمثال «صاحب مكتبة الأضواء الساطعة» سيستمرّون في ركوب الموجات مع كلّ زعيم جديد يفرّخ بعد الأزمات في بلادنا. الرواية لا تعطيه اسماً، بل صفة الثعبان وما تحمله من صفات، ليكون الحالة الأساسية التي تريد الراوية التبشير بأنه سيعود ويتكرر. وعندما جعلت كمال يغطّ في النوم بعد الجنس، فيمنعه الحب من الانتقام من هذا الثعبان، كانت تؤكّد على أنّ الحبّ سينتصر في قلوب أبناء شعبنا دائماً، ولكن سيستمر في المقابل أمثال هذا الثعبان بالظهور والنجاة.
مأخذ واحد على الرواية هو عنوانها، فحجر السعادة الذي نتوقّع حضوره بشكل أساسيّ، فيكون مؤثّراً في الأحداث والحالات النفسية بشكل كبير، نجده يظهر كل حين وحين. كأن الكاتب ينساه أثناء انشغاله بما هو أعمق من فكرة الحجر، فيعود كمال ويذكره، إلى أن يرميه في النهر عندما يقرر الانتقام. اختيار العنوان جاء فقط لأنّه عنوان جاذب، لكنّ الحجر محشور في الأحداث، وكان يمكن التخلّي عنه بكل بساطة، لأنّ النصّ أقوى من فكرة الغرائبيّة التي كاد يسقط فيها.
وعلى الرغم من تصنيف بعضهم بأنّ أسلوب الكاتب كان ساخراً، أو ما يعرف بالسخرية السوداء، إلا أننا لم نجد ذلك أساسيّاً في النصّ كي يُذكَر بوصفه مكوّناً من مكوّناته، على الرغم من مرور بعض السخرية والكلمات العامية في وصف الحالات، بيد أنّ أسلوب الكاتب يبقى طاغياً على المكوّنات جميعها، لما فيه من جذب وإمتاع، ومعه تأتي المكوّنات الأخرى بترتيب لاحق.
أراد أزهر جرجيس أن يجعل من خليل المصوّر حالةً إنسانية، يحقّ لها النطق بالحِكَم والأفكار العظيمة، وأنت عندما تبدأ بالقراءة، تظنّ أنّ خليل المصوّر هو حقاً شخص موجود ومشهور. فالرواية تبدأ بحِكمة له في صفحتها الخامسة، على غرار ما يبدأه الكتّاب من أبيات شعرية وأقوال تأثّروا فيها وتتقاطع مع ما يكتبون، فتكتشف في ما بعد أنّ خليل المصوّر هو شخصية من إنتاج خيال الكاتب. ولكن ألا يحقّ للكاتب أن يكون نرجسيّاً ولو قليلاً؟ نقول ولِـمَ لا، فخليل المصورّ حين يفتتح الرواية يقول «حين تغادرنا السعادة، فإن كل ما نعيشه بعدها لا يعدّ مغرياً».