أسئلة خليجية (جميل مطر)

 

جميل مطر

كنت مقتنعا بأن أسرع، وربما أفضل، وسيلة للاقتراب من تكوين صورة عن مستقبل دولة من الدول أو أمة من الأمم هو التعرف على أهم الأسئلة التي يتداولها الناس، حكاما ومحكومين، وتجميعها وتحليلها. تعلمت في مرحلة من مراحل حياتي المهنية أن نجاح الديبلوماسي يعتمد إلى حد كبير على كفاءته في ابتكار الأسئلة المناسبة وصوغها. وتعلمت في مرحلة أخرى أنه من الممكن جدا التنبؤ بجودة تحقيق أو مقالة صحافي استنادا إلى السؤال أو الأسئلة التي أعدها الصحافي أو الكاتب في موضوع تحقيقه أو مقالته. ونتعلم الآن، في تجربتنا المصرية الراهنة، كيف نقرأ مستقبلنا السياسي من متابعة الأسئلة التي يطرحها المرشحان وأسئلة أخرى تتمسك بطلب الإجابة عليها أغلبية المصريين.
الأسئلة في تونس قد تختلف عن الأسئلة في ليبيا، وعن الأسئلة في سوريا والعراق والأردن. ولكنه الاختلاف الذي يعكس خصوصية التطور الاجتماعي والسياسي الذي شهدته هذه البلدان في العقود الأخيرة، ويعكس في الوقت نفسه نتائج «الفرز» الطبيعي والنخبوي الذي تسببت فيه ثورات ما يسمى بـ«الربيع العربي»، سواء داخل مجتمعات الثورة أو في مجتمعات الجوار العربي. أستطيع أن اقول، وبدرجة عالية من الثقة، إن العرب في كل أقطارهم يطرحون أسئلة تختلف عن الأسئلة التي كانوا يطرحونها قبل أربع أو خمس سنوات. بمعنى آخر، يفكرون في مستقبل مختلف عن كل المستقبلات التي كانت مقررة لهم.
تابعت التغيير في الأسئلة المثارة في منطقة الخليج. أسئلة كانت على هامش اهتمامات الخليجيين، حكاما ونخباً أكاديمية وإعلامية، صارت الآن في الجوهر، وأسئلة جديدة، تجاوزت بجرأتها وقوتها حدود «الخجل» الخليجي المعهود، أسئلة تمزق أستاراً أو تفتح أبواباًً أمام اهتمامات غير مسبوقة. أسئلة تعبر عن قلق ولكن في غير خوف ورعب، وأسئلة تسمعها لأول مرة، لم تكن التقاليد ولا القواعد تسمح بأن تثار، فإن أثيرت فبالهمس.
من النماذج اللافتة مجموعة الأسئلة «الشبابية»، وبعضها يكاد يكون نسخا متطابقة لأسئلة تثار في المجتمعات كافة. فقد دأب الكبار في هذه المجتمعات على الاستمرار في تذكير العامة والصغار بأنهم، أي الكبار، إنما يكدون ويكدحون طول العمر من أجل العامة والصغار. وبالمعنى الدارج في معظم الدول، من أجل الأجيال القادمة. سمعت بين الشباب، أو للدقة قرأت لهم، ما يعكس رفضهم هذا الإدعاء. يقولون إن الكبار، كانوا يعملون ويكدحون من أجل أنفسهم أولاً، وما زاد من طاقة استمتاعهم واكتنازهم، اسبغوا عليه عبارة ضمان مستقبل الأبناء والأجيال القادمة.
يقابل هذا التمرد من الصغار غضب من الكبار. الكبار يسألون عن مستقبل مجتمعات ساءت فيها أخلاق الشباب وتدهورت لغتهم وانحدر مضمون أدوات التواصل الاجتماعي بينهم. تسود بين الكبار حالة تذمر من تصرفات الصغار. وتسود بين الصغار حالة «إنكار». يقولون نحن بخير، أما كبارنا فيلقون بتبعة فشلهم علينا. هم الذين أسبغوا علينا النعم ووفروا لنا أغلى الطيبات والرحلات، ليستريحوا بالضمير الراضي وليستبدوا بنا ويبعدونا عنهم.
أبالغ في تقدير مدى اتساع الفجوة بين الكبار والصغار هناك. ولكني لا أبالغ حين اعتبر أن هذه الفجوة في العلاقة بين الأجيال في الخليج تكاد تكون في خطورة وأهمية «الثورة» في مجتمعات أخرى. أن يحدث هذا الأمر في مجتمعات حافظت على استقرارها بفضل التقاليد وأهمها احترام الصغار للكبار، فهذا أمر يستحق الوقوف أمامه طويلا لمن يحاول قراءة المستقبل. إن بعض الأسئلة التي يطرحها الشباب في منطقة الخليج، لم يتجرأ بعد على طرحها بهذه القوة والصخب شباب الكوريتين واليابان، حيث تسود الثقافة الكونفوشيوسية التي تفرض على الصغار احترام الكبار.
النموذج الآخر من مجموعات الأسئلة المثارة في مجتمعات الخليج، هو المتعلق بالعلاقات بين النخب الحاكمة هناك. وقع بدون أدنى شك تطور غير مألوف في العلاقات السياسية الخليجية، إذ جرى العرف بين أعضاء «مجلس التعاون» على أن تدور خلافاتهم، إن دارت، في غرف مغلقة، وهو الأمر الذي أنهك أكاديميين عديدين من العرب وغير العرب خلال محاولاتهم الحصول على معلومات عن نزاعات ناشبة بين عائلتين حاكمتين في الخليج أو أكثر. كان الرهان بين أغلبهم أن التطورات السياسية والاجتماعية الحادثة في الشرق الأوسط وفي العالم على اتساعه لن تسمح للقوى الحاكمة الخليجية بالاستمرار في ممارسة أسلوب التعتيم على نزاعاتهم داخل مجلسهم.
وبالفعل، يمكن القول، إن «الخجل» الذي اتضح انحساره النسبي في المجتمعات الشبابية، في تغريداتهم أو رسائلهم النصية، وبين الشباب والكبار، سواء داخل الأسرة أم في قاعات العمل، بدأ ايضا ينحسر على مستوى النخب السياسية. لم يعد القادة السياسيون يجدون حرجا في الإعلان عن نزاعاتهم وخلافاتهم، أو على الأقل السماح بتسريب بعضها.
النموذج الثالث من نماذج الأسئلة الكاشفة عن اتجاهات مستقبلية، هي الأسئلة المتعلقة بالعامل الخارجي. هناك أسئلة تتردد على ألسنة كثير من قادة الفكر والسياسة والإعلام وتتعلق بمصير الخليج «العربي»، في ظل تقارب، ويحتمل أن يضطرد عمقاً واتساعاً بين الولايات المتحدة وإيران. لا يخفي بعض هؤلاء خشيتهم من أن يكون لهذا التقارب فعل الزلزال بالنسبة لهدوء واستقرار علاقات دول الخليج بالغرب، وعلاقاتها ببعضها البعض. يعتقدون، أن نتائج هذا التقارب لن تكون أقل أهمية من نتائج ثورات «الربيع العربي» على منطقة الخليج.
هناك من يؤكد أن جانباً من هذه الأسئلة يتعلق بالابتعاد المتسارع للولايات المتحدة عن الشرق الأوسط، ومساعي الرئيس أوباما للتخلص من أعباء التورط في أزمات المنطقة، استعدادا لأوضاع جديدة تماما في منطقة شرق آسيا. لذلك، وجدت من يسأل عن ضرورة توجيه المنظومة الإعلامية والسياسية الخليجية نحو مواقع نفوذ دولية جديدة، خصوصاً إذا تأكد أن إنتاج الولايات المتحدة من الطاقة قد وصل إلى مستوى يسمح لها بالتصدير إلى أوروبا.
يرتبط بهذه المجموعة من الأسئلة سؤال يتعلق بمصر. هذا السؤال يتردد بصيغ مختلفة وفي سياقات عديدة. ولكن يبقى جوهره ثابتاً وواضحاً. وهو مصر إلى اين؟ إنه السؤال الذي يكشف أكثر من غيره عن طبيعة المرحلة «الانتقالية» التي تمر فيها المجتمعات السياسية الخليجية، فضلا عن أنه كبقية الأسئلة، يعبر عن حال القلق والرغبة في توفير مصدر يستعيد للإقليم الثقة بنفسه والمستقبل.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى