أستراليا البيضاء… ماض موغل في العنصرية
من المؤكد أن الغرب الاستعماري يودّ لو أن العالم ينسى ماضيه العنصري، لكن جريمة قتل المصلين في المسجدين في نيوزلندا قبل أشهر ألقت الضوء على صفحة كانت مجهولة عن عنصرية الرجل الأبيض في المستعمرتين اللتين أسسهما الاستعمار البريطاني في جنوب شرق آسيا لتكون خطوط انطلاق استعمارية في المنطقة. ولا شك في أن العنصرية شكلت أساس ذلك الاستعمار والقضاء على أهل تلك البلاد، ذلك أن هذا الفكر استُخدم لتسويغ الاستعمار، ولا يزال يستخدم إلى يومنا هذا، انطلاقاً من الادعاء بالمهمة التحضيرية والتنويرية للغرب الاستعماري في العالم. وكتاب «الأفضل أن ننسى: الحرب من أجل أستراليا بيضاء صافية عرقياً (1914-1918)» (text publishing) لبيتر كوشرين، يتناول بالبحث عنصرية حكام أستراليا تجاه البشر ممن هم ليسوا بيض البشرة، وهو أمر كان خفيّاً قبل صدوره.
هذا المؤلف يتناول بالبحث مسألة مشاركة أستراليا في الحرب العالمية الأولى (اسم الحرب الرسمي عند بدئها كان «الحرب التي ستنهي الحروب كافة»)، علماً بأنها كانت في ذلك الحين مستعمرة بريطانية بشكل أو بآخر، أي أن مشاركتها في المجزرة الجماعية كانت إجبارية بحكم كونها تابعة للتاج البريطاني.
نحن نعلم أن الغرب الاستعماري يسوغ حملاته العسكرية وغير العسكرية بشعارات براقة مثل الدفاع عن الحرية والديمقراطية وما إلى ذلك من المفردات المستهلكة. لكن أستراليا تقع في أقصى شرق آسيا وبعيدة كل البعد عن مشاكل الأوروبيين في القارة. ولذلك فإن أراضيها لم تكن معرضة لأخطار الاحتلال الألماني كما صوّر بعضهم الأمر. مع ذلك، نرى أن قادتها اندفعوا للمشاركة في المعارك ودفع عشرات الآلاف من الجنوب الأستراليين (والنيوزيلانديين) حياتهم ثمناً للدفاع عن بريطانيا وحروبها الاستعمارية، في معركتي غاليبولي/ الدردنيل (اسم المعركة التركي: معركة تشنكاليه)، ومعركة احتلال فلسطين العثمانية.
لكن ماذا كان دافع القيادة الأسترالية للمشاركة في الحرب؟ سنترك للكاتب بيتر كوشرين، وهو صاحب مؤلفات عديدة في تاريخ أستراليا شرح تلك الدوافع، قائلاً: «خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، كان الأستراليون البيض غير منزعجين من العالم الخارجي. فآسيا كانت شبه مستعمرة وأفقر وأكثر تخلفاً من أن تهدد الوجود الأوروبي في أستراليا. أما أوروبت، فكانت بعيدة جداً. لكن منذ سبعينيات القرن التاسع عشر فصاعداً، تدهور الوضع الاستراتيجي وبدا أن العالم الخارجي يقترب، وشعر الأستراليون البيض بأنهم أكثر عرضة للتهديدات الخارجية».
القادة السياسيون في المستعمرات الأسترالية شعروا بالانزعاج من التوترات المتزايدة في العلاقات الدولية ومن ذلك سباق التسلح في أوروبا والتدافع على المستعمرات ونمو البحرية الروسية في شمالي المحيط الهادئ وحركة ألمانيا وفرنسا إلى جنوبي المحيط الهادئ إلى غينيا الجديدة وهبريدس الجديدة (اسمها الحالي فانواتو).
«صحوة آسيا» شكلت مصدراً لقلق العنصريين الأستراليين البيض الشديد وبلغت المخاوف المتعلقة بالهجرة الصينية والتهديد للوظائف والثقافة والنقاء العرقي ذروتها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ في حين أن بروز ربيب بريطانيا، أي اليابان التي كانت بحريتها تجوب المحيط الهادئ في تسعينيات القرن التاسع عشر، كان تطوراً مقلقاً لأمن أستراليا. والأسوأ من ذلك كله أن أولويات لندن في تلك الفترة كانت تصب في مكان آخر. في هذا السياق، زُرعت بذور التزام الأمة الفتية بالحرب العالمية المتوقعة.
خلال نصف القرن الذي سبق الحرب العالمية الأولى كان الانتقال دراماتيكياً: الانتقال من الرضى عن الذات إلى الذعر، ومن الشعور العميق بالأمان في أحضان الإمبراطورية الإنكليزية إلى القلق العميق من إمكانية التخلي، بل حتى الخيانة، إذا جاء يوم الحساب.
يقول الكاتب: «قد تتذكر الذاكرة الجماعية الآن حشداً تلقائياً للقضية البريطانية في عام 1914 بافتراض التماهي شبه التام مع المصالح البريطانية والأسباب الإستراتيجية الجيدة لعدم رغبة الأستراليين في هزيمة ألمانيا لبريطانيا، وبالتالي «تدمير نسيج الإمبراطورية الذي نحن نستريح فيه» كما قال بيلي هيوز رئيس الوزراء الأسترالي في ذلك الحين. لكن بعض أفضل الأعمال الأكاديمية في هذا المجال توحي بوجود جانب خفي لهذه القصة هو اعتراف قادة أستراليا بأن الأمن، والأهم من ذلك الطهارة العرقية، يجب شراؤها بالدم الأسترالي؛ وأن القلق ليس من الأعداء في أوروبا أو الشرق الأوسط، لكن من المخاطر الوشيكة أو الكامنة في المحيط الهادئ، أي من اليابان. هكذا وجهت سلسلة من حكومات الكومنولث طاقاتها لمدة عقد تقريباً قبل عام 1914 إلى الاستعداد للدفاع ضد اليابان، لتجد نفسها تقاتل من أجل الإمبراطورية في تركيا وفلسطين وفرنسا وبلجيكا. في خضم الحرب، تحدث رئيس وزراء أستراليا بيلي هيوز بصراحة عن هذه المفارقة عندما خاطب رجال أستراليا البيض عام 1916 بالقول: «أنا أطلب منكم الذهاب والقتال من أجل أستراليا البيضاء في فرنسا».
يسأل الكاتب أو يتساءل: لماذا ضاعت الشواغل العرقية التي شكلت استعداد أستراليا للحرب والتزامها اللاحق بالذاكرة؟ لماذا نجا الهوس من المحيط الهادئ ونقاء العرق، خاصة اليابان – هاجس امتد من الحقبة الاستعمارية إلى مؤتمر باريس للسلام في 1919-1920 وما بعده؟ لماذا ضاع البعد العنصري للتفكير الاستراتيجي لقادة أستراليا؟ لماذا لا يشتمل إحياء الذكرى الجماعية لدينا على فكرة خافتة مفادها أن حرب الأمة كانت، في جزء منها حرباً من أجل أستراليا البيضاء؟ وهنا تكمن أهمية هذا المؤلف لنا، وضرورة العودة إلى الوثائق الرسمية عند تناول أي موضوع تاريخي، وهو أحد دوافعي لاختيار هذا المؤلف لعرضه في هذا المنبر.
صحيفة الأخبار اللبنانية