يبقى الكاتب نجيب محفوظ، رغم مرور عقود على تتويجه بجائزة نوبل للآداب ومضي قرابة سبعة عشر عاما على رحيله، الكاتب العربي الأكثر شهرة وتأثيرا. ولعل حواراته تكشف بدقة عن آراء مثيرة له في الساحة الثقافية لا تزال تمثل نافذة على مآلات الثقافة العربية وتوجهاتها.
يلاحظ نجيب محفوظ أن جيل الكتَّاب الذي يمكن أن ننسبه إلى ثورة يوليو 1952 -وليس ضروريًّا أن يكون من أبناء الثورة- أي الجيل الذي ظهر مع الثورة. ومنه يوسف إدريس، هذا الجيل مات أفراده في سن غير متوقعة، وليس في سن موت. وأن الجيل السابق لهم صمد أكثر منهم أمام الموت، وعاش الحياة بدرجة كبيرة. إنما أفراد جيل الثورة ماتوا شبانا أو بالكاد في سن المعاش.
وحين يطلب منه الكاتب الصحافي محمد الشاذلي تفسيرًا لهذه الظاهرة يقول نجيب محفوظ “إذا أردنا أن نربط الثورة بالرحيل المبكر لأبنائها وللمصاحبين لعهدها، فقد تكون الآمال التي أعطتها الثورة والنكسات التي تعرضت لها، أثَّرت في هذا الجيل من المفكرين والأدباء. هذا تفسير محتمل، وقد يرى غيري خلاف ذلك”.
حكايات محفوظية
يذكر الكاتب نجيب محفوظ أسماء معينة للدلالة على ما ذهب إليه. مثل عبدالرحمن الشرقاوي وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور وصلاح جاهين وعبدالحكيم قاسم ويوسف إدريس أيضا.
محفوظ بسط الكثير من آرائه في شتى مناحي الحياة والموت والأدب والثقافة والفنون عبر حوارات محمد الشاذلي.
ويقول “هؤلاء ماتوا من التوهج مع الآمال لأقصى درجة. ثم الانخفاض مع الإحباطات لأدنى درجة، وهذا التأرجح لا تقدر عليه أعصاب الغالبية من الناس، خاصة المثقفين”.
وقد بسط محفوظ الكثير من آرائه في شتى مناحي الحياة والموت والأدب والثقافة والفنون، من خلال حوارات محمد الشاذلي معه. والتي نشرت في بعض الصحف والمجلات المصرية والعربية. والتي جمعها في كتاب صدر عن الهيئة المصرية العامة لكتاب 2022 تحت عنوان “أيام مع نجيب محفوظ – حكايات وحوارات”. وجاء في 230 صفحة، واشتمل على الحكايات والحوارات والوثائق والصور.
أسرار الكاتب نجيب محفوظ من “أولاد حارتنا” إلى “نوبل”
وقد نقل لنا الشاذلي أجواء احتفالات الأكاديمية السويدية بفوز نجيب محفوظ بنوبل 1988. حيث كان ضمن الوفد المصري الذي سافر لتغطية تلك المراسم والاحتفالات.وكان الوفد يضم نحو ثلاثين صحافيا وإعلاميا لتغطية وقائع الاحتفال بتسلم الجائزة.
ومن خلال 26 حكاية يروي لنا الشاذلي أنه صدر كتاب في ستوكهولم لأحد العاملين في مؤسسة نوبل كشف فيه مؤلفه أن يوسف إدريس رفض قبل وفاته عرضًا بالحصول على الجائزة مناصفة مع كاتب إسرائيلي.
كما يروي لنا الشاذلي أنه بعد ثلاثة أيام من فوز محفوظ بنوبل أجرت دار الهلال حوارًا استمر خمس ساعات ونشر بالكامل في عدد خاص من مجلة “المصور”. وكان هو ممن شاركوا وأعدوا الحوار للنشر.
وكانت أول جملة قالها الكاتب نجيب محفوظ ، ردًّا على سؤال عن إحساسه عندما وصله خبر فوزه بالجائزة، “شعرت بأنني محظوظ. وأن فوزي بالجائزة جزء من الحظ لا شك فيه، لأنه سبقني أدباء تربيت في مدارسهم. وآخر عظيم منهم هو شيخ الكتاب توفيق الحكيم. وعدم فوزه يتطلب إيضاحات كثيرة لا أملكها”.
وفي ذلك الحوار ذكر نجيب محفوظ أسماء يوسف إدريس من مصر، ومن العرب حنا مينا والطيب صالح وعبدالوهاب البياتي يرشحهم لنوبل، بينما يهدي جائزته ليحيى حقي.
ويلقي الشاذلي الضوء على احتفالية رئاسة الجمهورية بفوز محفوظ التي ألقى فيها الرئيس حسنى مبارك كلمة “ثقافية” حدد فيها معاني ودلالات فوز محفوظ بهذه الجائزة.
ويرى الشاذلي أن حفل الاتحادية يذكرنا باحتفال تنصيب أحمد شوقي أميرًا للشعراء (1927) لولا خلوه من الشعر. فقد حضر كثيرون من مصر والعالم العربي ومن المستشرقين وسكرتير الأكاديمية السويدية.
ويذكر الشاذلي تعليق نجيب محفوظ على التمثال الذي أقيم له ووضع في ميدان سفنكس قائلا “إنه جميل.. ولكن يبدو أن النحات تأثر برواية ‘الشحات’”.
وتتعدد الحكايات المحفوظية في هذا الكتاب:
فيحدثنا المؤلف عن ليلة سفر نجيب محفوظ إلى لندن، لإجراء عملية جراحية في القلب عام 1991. كما يحدثنا عن جلساته في مقهى علي بابا بميدان التحرير. وأنه لم يكن يملك نسخة من “أولاد حارتنا”. فقد طلبها منه رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقي يوم زيارته لبيته لتهنئته بالفوز بجائزة نوبل. ولكنه لم يكن يملك نسخة منها، ولا الحكومة أيضا.
ويؤكد الشاذلي أن صاحب “ميرامار” لم يكتب أيًّا من سيناريوهات الأفلام العشرين المأخوذة عن أعماله. أو تلك التي تحولت إلى مسلسلات إذاعية وتلفزيونية ومسرحيات. وأنه لم يكن بعيدًا عن الفن التشكيلي. وأنه جرت محاولات للتعبير عن أعماله بالرسم. ليس فقط رسومات الأغلفة التي أبدع فيها جمال قطب ثم حلمي التوني. وإنما أيضًا هناك تجربة رجاء النقاش -وكان رئيسا لتحرير مجلة “الإذاعة والتلفزيون” سنة 1971- عندما نشر رواية “المرايا”. مصحوبة بصور شخصياتها التي بلغت نحو 63 شخصية بريشة سيف وانلي.
ويلقي الشاذلي الضوء على قصة اختيار محمد سلماوي لإلقاء كلمة نجيب محفوظ في الأكاديمية السويدية. وما صاحبها من لغط وغضب. وأسرار الطائرة الخاصة إلى ستوكهولم التي خصصت للوفد الصحفي المصري. كما وموقف الدولة المصرية الذي كان مثيرا للدهشة، حيث لم تهتم الحكومة بإحاطة هذه المناسبة بما يليق بها من حفاوة. ولم ترسل وفدًا للتغطية الصحفية والإعلامية على نفقتها في مناسبة لن تتكرر.أو تساعد في دعم الوفد الذي سافر. لا وزارة الثقافة ولا وزارة الإعلام ولا الخارجية، الكل رفع يده.
أسرار نوبلية
من الأشياء المثيرة التي حكى عنها الشاذلي في رحلته إلى ستوكهولم. أن جماعة إسلامية هي “المركز الإسلامي للثقافة والتعليم” في أوبسالا شمالي السويد. أصدرت نشرة “الهجرة” واعتبرت أن مكاتباتها وضغوطها منذ أكثر من عام كانت السبب في قرار فوز محفوظ بنوبل. أو على الأقل كانت من الأسباب التي أدت إلى هذا القرار الذي تأخر عن وقته كثيرا.
وكشف ستوري ألين -السكرتير الدائم للأكاديمية وعضو لجنة الأدب. أن نجيب محفوظ كان ينبغي أن يحصل على الجائزة منذ 20 عاما على الأقل. لأنه لا يوجد من هو في مستواه خلال العشرين سنة الأخيرة. وأن “عدم المعرفة الواسعة في الغرب بنجيب محفوظ ليس مشكلة الكاتب الكبير ولكنها مشكلة الثقافة الغربية”.
ويكشف الكتاب:
أن طه حسين كاد يحصل عليها فعلا في عام 1949 لولا تداعيات الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى. وقرار لجنة نوبل تأجيل إعلان الفوز بجائزة الأدب في ذلك العام، لعدم توافر الشروط المطلوبة في أي من المرشحين الخمسة لها (القائمة الصغرى) ومن بينهم طه حسين. ثم أعلن لاحقا فوز الروائي الأميركي ويليام فوكنر عن ذاك العام. وظل اسم طه حسين على قوائم الترشيح حتى عام 1964.
كما يكشف الكتاب:
أن كاتبا تونسيا هو حسن أحمد جغام. نشر في كتابه “شذرات في النقد والأدب” أن الأستاذ المصري الدكتور عطية عامر (وكان يتولى رئاسة قسم اللغة العربية بإحدى الجامعات في السويد) صاحب الدور في الجائزة. إذ تلقى خطابًا من الأكاديمية السويدية عام 1978 ليرشح شخصية عربية. فرشح نجيب محفوظ قبل الفوز بها بعشر سنوات. بينما قال الشاعر الفلسطيني سميح القاسم لمجلة “الوسط” (فبراير 2001). إن محفوظ فاز بجائزة نوبل للآداب في الثمانينات بسبب مواقفه المؤيدة لكامب ديفيد. واعترف الشاعر السويدي إسبمارك بأن الاختيار في عام 1988 انحصر بين محفوظ وأدونيس فقط. لكن قرار الأغلبية داخل لجنة التحكيم جاء لصالح نجيب محفوظ.
وبينما كان العالم يتابع احتفال تسليم جائزة نوبل، كان نجيب محفوظ يشاهد الاحتفال في التلفزيون. ويرى كيف أخرج الملك كارل جوستاف السادس عشر أم كلثوم وفاطمة نجيب محفوظ من حالة الرهبة في قاعة الكونسيرت في ستوكهولم، بمداعبتهما عند تسليمهما وثائق جائزة نوبل. فقد اتجهتا ناحية الملك وصافحهما وهو يقول “من منكما ستتسلم الجائزة؟”، ثم بدا وكأنه يسلم أم كلثوم علبتي القلادة الذهبية والشهادة.م أمسك بهما وأعطاهما لفاطمة، ما أطلق الهمهمات الضاحكة في القاعة.
ويروي الشاذلي أنه عقب تسليم الجوائز أقيم حفل فني قدمت فيه أغنية للموسيقار عبدالرحمن الخطيب على إيقاع “آه يا زين العابدين”:
يا نجيب يا محفوظ/ يا عربي يا مصري أصيل/ آه يا وردة شاربة من مية النيل.
ومن الأسرار النوبلية التي يرويها الشاذلي في كتابه:
أن الأديب السكندري سعيد سالم كان في بعثة بستوكهولم قبل نوبل بثماني سنوات، والتقى الدكتورة شيشتين إكسيل التي تولت رئاسة قسم اللغة العربية بالجامعة بعد الدكتور عطية عامر. وكانت تترجم “زقاق المدق” وسألته عن بعض الكلمات التي تجد صعوبة في ترجمتها. وبعث سالم خطابا إلى نجيب محفوظ يطالبه بمراسلة إكسيل. وأبلغه بأن زوجها الصحافي قال له سرا خطيرا وهو أن محفوظ سوف يحصل على جائزة نوبل في الأدب خلال عامين على أقصى تقدير.
ويكشف الكتاب أن نجيب محفوظ أقام مسجدا عند قرية العزيزية على طريق الإسكندرية – القاهرة الصحراوي، وقد افتتح للصلاة بعد وفاته بعامين (أي 2008). ويظن الشاذلي أن تكاليف بناء المسجد لم تكن من أموال الجائزة أو ريعها، إنما من عوائد نشر وترجمة أعماله في الداخل والخارج.
ويتعرض الكتاب لقصة مذكرات الكاتب نجيب محفوظ ، وقصة رواية “أولاد حارتنا” وقول الشيخ الغزالي إن الشيخ كشك رجل جاهل. في الوقت الذي يثبت فيه الكتاب أن ثلاثة شيوخ كتبوا تقارير إلى جمال عبدالناصر ضد الرواية هم: الشيخ الغزالي والشيخ محمد أبوزهرة والدكتور أحمد الشرباصي. وانتهى الأمر بمستشار عبدالناصر يطلب من محفوظ لقاء علماء لم يأتوا أبدا وعدم نشر الرواية في كتاب حتى تتوقف الضجة المثارة. وفي الوقت نفسه يصرح محفوظ بأن “روايتي ليست كافرة ولا أنا بكافر”. وتنشر الرواية في نهاية العام 1967 في لبنان.
ويتحدث الشاذلي عن الأميركي الغامض في جلسة محفوظ0 ويدعى ريموند ستوك، الذي عرَّف نفسه بأنه باحث أميركي يخطط لإصدار مؤلف عن الكاتب الكبير. ولم يصدر الكتاب أبدا، وتم منع ستوك من دخول مصر.