الفؤوس
الفؤوس … ذات صباحا استيقظت الشجرتان الجارتان، منذ خمسين عاماً، فركتا أوراق الفجر، كما يفعل النائم عند الصباح، وفيما تعدّ إحداهما ركوة القهوة ، كما في كل يوم ، وجدت فأساً مغروسة في المسافة الفاصلة بين الشجرتين. ذعرت الشجرة، وسقطت القهوة على الأرض، فاقتربت من جارتها ناقلة إليها خبر الفأس كمقدمة لكارثة… فحيث توجد فأس توجد شجرة على أهبة القطع ! لكن الشجرة الثانية ابتسمت ، وأصدرت ذلك الحفيف بين الأوراق، علامة على الغبطة … وقالت حكمتها : ” إذا لم تعط إحدانا ذراعاً لهذه “الفأس” فهي قطعة حديد تصدأ وتطمرها الفصول!
…………
حين قرأت هذه الحكمة البسيطة، منذ أكثر من سنة، قلت لنفسي، إن حكمة البشر، وقصصهم، وعبرهم، جاءت من تجربة مرّة شديدة المرارة، وأظنها الأقسى، إن كانت حرباً.
وقلت لنفسي : يوجد “أمل” في بلادنا سورية ، ألا تنتشر الفؤوس . وإذا انتشرت ألا تكون الأشجار هي من يقدم لها أذرعها … فيشتغل الحطابون، والخشابون ، ومضرمو الحرائق ، إفناء الشجر المقطوع بمساهمته هو ، وخطئه هو، وخطيئته هو.
يا للأسف…
وصلنا إلى المشاهدة الباهظة، متفرجين على “تدمير ذات” غير مسبوق في التاريخ المعاصر . وصلنا إلى تمزيق النسيج والجذور واحتمالات أن نحيك، بأيدينا شيئاً غير هذه الهاوية !
مرة، حاولت كتابة قاموس شخصي لتعريف الكلام العادي والأسماء والتسميات المتعارف عليها والمألوفة ، بطريقة منحرفة قليلاً لإخراج “المعنى من المبنى ” كما يقولون، وذلك باستخدام المجاز، وانحراف الدلالة . مثلاً: لتعريف الشجاعة يوجد اتفاق عام على المفهوم. وهو اتفاق غير دقيق، في الحقيقة ، وعشوائي ـ لكن الشجاعة ممدوحة دائماً : في الحرب، في الجهر بالحقيقة ، باقتحام المخاطر، بالتضحية البطولية… إلخ! جاء من قال : ” الشجاعة هي أن تندفع لفعل شيء وقد ضمنت النتيجة مسبقاً!”.
هكذا أردت صناعة قاموسي، وسوف اطلعكم على كمية من مفرداته ذات يوم، وبصدد الحديث عن فأس وشجرة وجارتها… قلت تعريفاً للحقد : “إنه مؤلف من الأشجار المقطوعة ومن الرجال المقتولين” ودائماً يمكن إضافة أي شيء إلى هذا الكائن البديع… الشجرة . فما من أحد ، بقليل من اللغة والحب ، إلا ويستطيع تأليف جملة مبتكرة ، مدهشة عن الشجرة. والكلمات التي تبقى هي التي قيلت، ليس لتمجيد هذا الكائن البديع، وإنما التي حاولت فهمه وإسقاط الأفكار على مكوناته: الجذر .الغصن .الوريقة. الورقة .البرعم .اللحاء .الخشب .
الفروع .الأخضر .الثمر .البذور…إلخ.
وكل مكونات الشجرة ذات عمق دلالي موح بمجرد الاستخدام الإنساني للغة وللفكرة…” انظر إلى شجرة الصندل وهي تعطّر الفأس التي تقطهعا!”… هذا السطر مليء بالحنوّ ، وبالثراء النفسي الأفريقي، لكاتبه!
إحدى أهم صفات الفيروزيات، في الاغنيه الرحبانيه … هي “شعرنة” الأشياء العاديه، والموجودات الصغيره، وإشراك الطبيعة بالتفاعل مع الانسان في لحظته الباهره، قسوة أو حنانا.
“ياريت الريح…
إذا إنت نسيت، حبيبي،
طولت خريف وماجيت…
ينساها الحور وقمرها يغيب… وليلا يطول ….الخ”
…………..
ربما يحمل الحديث، هذا، عن الشجرة… عن الشجرتين الجارتين، رنيناً له رائحة الحزن السوري جراء مايحل بنا والذي لايبدو أنه قابل لنهاية وسطى بين الجرح وبين الموت، بين تدمير بيت وبين تهتك مدمر لنسيج الحياة .
إن الكارثة لاتعود بعد حين، مؤلفة من التفاصيل، كما لايعود مهماً تفكيك هذه التفاصيل: من قتل أكثر، ودمر أكثر؟
الكارثة ينبغي استخدام هاويتها المفتوحة لدفن الكارثة… إلى مجابهتها بأفضل مافي روح السوريين من العزم لكي ينجو بلد صغير الحجم، كبير الأهمية… أحد أهم محبيه (دون شك) هو….الله !
بوابة الشرق الاوسط الجديدة