القنيطرة و… الأبد !
القنيطرة و… الأبد !…
آخر وفاء لما يموت هو… نسيانه
في لحظة الوثيقة العاطفية، يرتكب عاشقان مبتدئان حماقة الدم الأولى: وخزة دبوس لأصبعين. قطرتا دم تمتزجان، وتصبغان ورقة، مكتوب عليها: ” إلى الأبد !”
وثمة وثيقة اقتصادية، هي دفتر توفير مشترك يضع فيه العاشقان ما يمكن ادخاره… يشتركان مناصفة في المبلغ الأول … ثم تتكفل أيام الفقر بانتزاع السندويشة الأولى من بين الأصابع، لتكون وليمة مطبخ الغد…
لا يمكن التعرف على اختراعات العشاق، مصدرها ومرجعيتها، ربما تكون ثقافة الطقوس، وهي تتسرب من شقوق القصص الشفوية . وربما هو المنشأ المتكرر للرغبة في التغلب على الموت. وربما تكون مسودة يقين المغادرة المحتومة والفراق المؤكد .. فالحب هزيمته نائمة فيه !
المدن كالنجوم… لا تنطفىء دفعة واحدة ، وهي تموت تظل متناثرة في الكون مضيئة، وذاهبة إلى مجهولها.
ومن بين المدن التي أعرف تماماً كيف عاشت وماتت… وظلّت كالنجوم لا تنطفيء… هي هذه المدينة السورية العزلاء التي اسمها “القنيطرة”!
والقنيطرة التي أصبحت حائط مبكى سياحي، ليس مصيرها دلالة على فرط القوة … فبالديناميت والبلدوزر يمكن تدمير أي مدينة في أيام قليلة كما حدث للقنيطرة ، وإنما شاهد على تاريخ حروب ملتبسة، فضلاً عن كون المسألة تتعلق برمزية ، أرادها الاسرائيليون درس تاريخ لورثة الصراع من الطرفين.
أعرف القنيطرة. عشت فيها أسابيع فقط ولكنني أعرفها، والأهم أن هناك منزلاً صغيراً بغرفتين، تركت فيه وثيقتين:
العاطفية :
تلك الورقة الممهورة بالدم بتعهد “إلى الأبد”.
والوثيقة الاقتصادية:
ذلك الأساس البسيط لثروة المستقبل:
دفتر توفير البريد ، الذي تعرفون ، وفيه المبلغ الأول وقدره خمس وعشرون ليرة…
إننا في العام 1966 .
عندما نشبت الحرب كنت قد تركت الوثيقتين في ” جزدان” عتيق مع أوراق هي المسودات الأولى لمزاعم الشعر المبتدىء ، وعندما سقطت القنيطرة، كنت ما زلت مقتنعاً بأن اسرائيل هي أقل من مخلب سخيف، في قدمي “نمر الورق” الذي هو تسمية ماوتسي تونغ للامبريالية!
وكنت واثقا أيضاً أنني سأذهب ، ذات يوم، لا لأستلم مفاتيح المدينة بعد تحريرها، فهذا ليس لي، بل لأرى وثائقي وأشعاري . وكنت طبعاً قد توقفت عن التوفير، حرصاً على المعنى… فلا يضع العاشق بيضه في غير عشّه!
وعندما نشبت الحرب الثانية 1973 وانتهت إلى استسلام القنيطرة حطاماً، كان بوسعي “كمراسل حربي” أن أدخل المدينة مع الداخلين الرسميين الأوائل. في موكب يتقدم وسط الخراب، وكان الدخان ما يزال يتصاعد من سجائر الاسرائيليين.
وهكذا سأعثر على كنزي، ومعانيه، خصوصاً بعد ان أصبح ذاك الحب حبل غسيل تنشر عليه تلك الفتاة ، التي أحببتها، حفاضات أطفالها من رجل آخر.
هناك، بين الأنقاض كان مستحيلاً معرفة، ليس البيت فقط، بيت ودائعي، وإنما مستحيل معرفة الشارع، أو الحي. لقد اختلط لحم المدينة بدمها، بصمتها. فقبل أيام أعطت اسرائيل “متعهد” الخراب، وسميته أنا “شلومو”، أمراً بألا يترك وراءه شيئاً يدل على شيء في هذه المدينة، وهكذا لم يسلم شيء “سوى بضع دجاجات وقطط” ونصف جرس لكنيسة متهدمة، وقبور مفتوحة رأينا فيها جثثاً مفتتة بالرصاص، بحثاً عن الأسنان الذهبية في أفواه الموتى.
تجولت بين الأعمدة، بين السقوف المنهارة، أمام التي كانت أبواباً وشبابيك. وتوهمت أن سقفاً يشبه ما كنت تحته يوماً ما… قد انحنى قليلاً، ليترك فسحة لدخولي، والبحث عن كنزي، العاطفي والاقتصادي.
كان الشيء الوحيد الممكن العثور عليه هو الفكرة : فكرة “الأبد” و “الوفاء” للمستحيل. ولذلك اخترت، بعد ثلاثين عاماً، اسماً لروايتي “إلى الأبد و…يوم” واليوم الذي أقصده في الرواية هو: العدم. فليس بعد الأبد أي شيء سوى العدم.
ذات يوم… جاءتني رسالة على الموبايل من صديقة تقول فيها: “أنا في القنيطرة”. فأجبتها برسالة تقول: “ابحثي في أي مكان عن كنزي هناك” لعل وعسى!… وفجأة ، عاد ذلك الشريط الشائك من الذكريات… شريط أزمنة غابرة وغبار…عاد ليقول لي:
” المدن تنطفىء كالنجوم، ولكنها لا تموت” إلا أنها عندما تموت يحمل الحب، على عكاز، صرّة خبز وماء … من أجل رحلة بلا عودة…ويرحل!
………….
اليوم…
اليوم لا أستطيع مجرد التفكير في الذهاب إلى مملكة ذكرياتي المدمرة… القنيطرة! فقد امتلأت بالمسلحين في المنطقة التي كانت جبهة، وجبيناً، ووجه هزيمة ونصف نصر، ذات يوم!
الاسرائيليون، من روابيهم في الجولان، يتفرجون على الدم السوري، وهو يسيل، في معركة ليست هي طرف فيها.
لا ” أبد” لأي شيء……
وها أنذا يئست للمرة الثالثة من العثور على أوراقي الأولى في ندوب اقتصاد العاطفة!