ذاكرة شخصية
ذاكرة شخصية
نحيك للذكريات ثوباً… في الصقيع!
…………………………………………………………………..
صديق، في آخر أيام مرض السرطان، أحقر مرض في عصرنا، (لأنه يأخذ المريض، ومدخراته، أو أملاكه معه في جهد المداواة العبثية…) هذا الصديق قال لي ذات لحظة:
ألم تعلمك إسبارطيتك المزعومة ( يقصد قوة الروح والجسد نسبة إلى الإسبارطيين اليونان) أن تفعل شيئاً لأجلي؟
فكرت، واقترحت عليه، في صراحة باسمة، أن يموت بجهده قبل أن يقتله السرطان بخططه.
” هكذا تكون، يا سليمان، قائداً لمصيرك لمرة واحدة في هذا الزمان!
سألني بفضول:
كيف ؟
قلت :
نسهر الليلة معاً، كما في أيام زمان، ونضع أمامنا زجاجة ويسكي، ونشرب ونتحدث حنى تموت . وأنا أغطيك بالحكايات، وأودعك بالشعر، ريثما يأتي يوم القيامة و… نلتقي مرة أخرى !
ضحكت في وجهه عضلة الإزدراء الجميل، ودلني على مكان الزجاجة.
ملأت كأساً طافحاً له وآخر لي. وقرعنا حياتنا، فرنّ الصمت، ومع الجرعة الأولى بدأت أقص له الحكاية التالية:
“كان راهب يتهيأ للكلام في ساحة القرية الكبيرة. كتب خطابه بعناية فائقة، وعندما تهيأ لقراءته، هب الهواء، فجأة، وطارت الأوراق، فعلقت على أغصان شجرة ليمون. باغته الأمر. ولم يعرف من أين يبدأ كلامه، فقال:
إليكم يا أصدقائي، باختصار، ما وددت عرضه في خطابي عليكم:
“عندما أجوع آكل . وعندما أتعب أنام”.
فناداه واحد من الحشد سائلاً:
ولكن أيها المعلم ، أليس كل الناس يفعلون مثلك؟
قال: لا … ليس بالطريقة نفسها. عندما يأكل الناس يفكرون بالكثير من الأشياء. وعندما ينامون يفكرون بالكثير من المشكلات. لهذا فهم لا يفعلون مثلي!”
ثم نزل المعلم إلى وسط الناس، وردّ على أولئك الذين يسألونه ثم قال: ” أما التفاصيل فستجدونها على أغصان شجرة الليمون!”
ابتدأ سليمان يتورد وجهه. من الكأس أم من الحكاية؟ لا أدري .
طلب مني أن أقرأ له شعراً مفضّلاً لدي . فأنشدته هذه الأبيات التي لا أعرف من كتبها:
غسل اليدين من الدنيا وبهجتها
و قام صلى صلاة الخالد الفاني
حطّ العيون على الأشجار وانسربت
من صدره روحه واحمرّ خدّان
يا وقت… يا وقت لا تعصف بأغنيتي
يا وقت لا وقت كي أصطاد ألحاني
………………
صديقي هذا فر من سورية عام 1972 إلى بيروت (لأسباب أمنية) … فقد كانت يساريته، تلك الأيام، مثل غيره… تقوم على تحرير الكون من الظلم، والفساد، وانعدام الأمل، وإقامة سلطة النمو الحرّ والثقافة الجميلة!
في بيروت أسس دار نشر (ابن رشد) نشرت، فيما نشرت، الأعمال الكاملة لدستويفسكي. ثم خرج من بيروت مع الفلسطينيين ، إلى تونس، إثر احتلال الإسرائيليين لأول عاصمة عربية. وهناك، مع المنفيين الفلسطينيين عاش تجربة غربة جديدة.
في تونس… التقيته وعشنا محنته. وعندما اشتدت حاجته للمال كانت حاجته للموت أشد، ولكنه طلب مني أن أكتب رسالة إلى السفير الفلسطيني في الأرجنتين، أطلب فيها منه البحث، عبر الإعلان، أو أية وسيلة، عن أخيه (أخ سليمان) الذي أصبح ثرياً، واسمه الجديد (بيدرو…) فجاءني الجواب، بعد موت سليمان بشهرين، بأن السيد بيدرو يطلب ثمن بطاقة طائرة ليعود إلى بلاده… بعد غياب ربع قرن. وخيبة ربع عمر!
………………….
وبعد عشرين عاماً… تطلب مني زوجة سليمان، أن أبحث لها عن عنوان السفير السوري في تونس(ليحل) لها مشكلتها مع زوجة المترجم الدكتور سامي الدروبي التي ( تطالب بحقوق ترجمة دستويفسكي )…. بعد أن امتلأت اللائحة بالموتى. من دستويفسكي ، إلى الدروبي، إلى سليمان…الى آخره !
…………………….
في الذاكرة ثمة أهمية للأشياء التي حدثت منذ زمن بعيد.
والآن لا أهمية للموت، إلا إن كان بالجملة لا المفرق.
لقد رفع الحزن الشخصي رتبته إلى عويل عمومي!