عن الشعر نكايةً بالحرب !
عن الشعر نكايةً بالحرب !
(( أفكر مثلما تخلع فتاة فستانها ))
قال هارون الرشيد يوماً لعازف الناي: ( تأهب غداً لترافقني ) فقال: ( بماذا أتأهب؟ الريح في فمي والناي في كم ثوبي )! إنني من المؤمنين بأن الشاعر أهم من الشعر، وأعني بنية نفسه وروحه، وموقفه وطريقته في / رؤية العالم، وتلقيه، وأن الشعر في هذا العالم قليل، ويكفي القليل. ويمكن لشاعر أن يتفاخر بديوان واحد … أو ببضعة نصوص انتهت في نضج وصولها الحر إلى منطقة الجمال المحررة ، لدى من يقرأها أو يسمعها.
الشعر صعب، بين الفنون، وربما كان ” ريكيه ” على حق عندما قال: ( إذا أردت أن تكتب سطراً شعرياً، يجب أن تكون قد زرت مدناً كثيرة، رأيت أشياء كثيرة، و … قطفت زهوراً كثيرة )
الشعر لا ينبغي أن يؤجر أو يرهن نفسه … أن يكون بطلاً على منبر، وصراخاً في الأموات. لا ينبغي أن يكون سلطة، أو قريباً منها، فالمصالح لا تبدع شعراً، بل تصنع نظّامين!
أحد ولاة الحجاج ( ديكتاتور العراق في زمن الأمويين ) أدخلوا إليه امرأة أسيرة من الخوارج. فقال لها: ” يا عدوة الله ، ما الذي حملك على الخروج علينا ؟ أما سمعت قول الله تعالى في كتابه العزيز :
كتب القتلُ والقتالُ علينا وعلى الغانيات جرُّ الزيولِ
( تنويه ـــــ من شعر عمر بن أبي ربيعة )
فقالت: الذي حملني على الخروج عليك وعلى أئمتك ، يا عدو الله ، جهلك بكتاب الله !
فأمر بقتلها فوراً طبعاً !
الدهشة أول الشعر، ولكن الشاعر الذي يظل مندهشاً بكل زهرة، وامرأة، وكارثة … يعيد كلاماً قيل. وأكثر ما يفضح الشعر هو الحب والموت … فليس كلُّ امرأة حدثٌ جمالي، وليس كل موتٍ جليلاً !
فالحب تجرِّب فيه البشرية دهشتها، وتوقها، وحكمها.
ليس الموعد المخذول دائماً موضوعاً سائلاً للشعر.
فالحب المميت وحده هو الذي يكتب عنه. وكذلك الحياة.
فهي ليست يوميات مسعانا، وحلمنا وحسب … إنها ” الإجازة الطويلة من الموت ”
وكما قال شاعر: ” للأسف نحن أشخاص مؤقتون ” !
على الشاعر أن يظل منتبهاً إلى الأصوات ، فمن بينها توجد النغمة التي تذهب إلى أوتاره . وأجمل الأصوات لن يسمعها ولو عاش إلى الأبد … لأنه لو سمعها، كما في الأساطير، يموت !
وأيضاً، وبرغم ذلك، فإنه ليس للشاعر مزاياه الفريدة، وحيث يجده الناس ضوءاً في عتمة البشاعات، هو يرى نفسه : ” لا بد مما أفعله بنفسي ”
يقول ماركيز: ( نحن، بفضل نكبة ما لا نستطيع أن نكون شيئاً آخر. وإن عملنا الذي يتصف بالتوحد … يجب ألا يستحق مكافأة أو امتيازاً أكبر من ذاك الذي يستحقه الحذَّاء على صنع حذائه).
والشعر ليس طويلاً ولا قصيراً، ولا تفعيلة ولا وزناً، وليس نثراً، ولا خلطة أعشاب وأقمار وأزهار … إنه إشباع للنهم الجمالي فينا. ” لقد استغرق الأمر ملايين السنين حتى أصبح الإنسان يغني أفضل من العصافير ” وكذلك الأمر منذ الأبجدية الأولى حتى منظومة التوق الأولى إلى مجهول !
اليابانيون في شعر الهايكو … يقولون في أسطر، ما يكفي وكثيراً :
( تعالي … نرتِّب هذه الزهور
في هذه الأواني …
ما دام ليس لدينا … أرز )
ولعل الشعر هو إحدى أدوات البحث الوجداني عن المفقودات . لعله صغير الخائف لتبديد الوحدة . لعله نداء الذكورة الأبدية والأنوثة الأبدية .
إنه يشبه استغاثة حزينة ومدهشة ، كما في هذا البيت لبدوي الجبل:
بكيت “من” السراب وحين ولّى وأوحدني … بكيت “على” السراب
وأخيراً …
الأدب هو أفضل ما تم اختراعه للوقاية من التعاسة …
لكنه ، ياللأسف ، لا يوقف حرباً !